السبت، 12 ديسمبر 2015

نفمبر دروس و عبر 1/2

أحمد أرجيل

نستقبل كل سنة الثامن و العشرين من نفمبر بذات المشاعر من الآلام و الآمال التي استقبلناه و ودعناه بها السنة الماضية و كأن مراكب المسايرة الطبيعية للزمن و حركة التاريخ قد تعطلت بنا في ذات المكان من الزمان فتوقفت الحركة و ساد الجمود حتى أكمل العام دورته و جاء نفمبر مرة أخرى يتمايل متبخترا يتهادى على أشلاء الآمال الخائبة الميتة كمدا و المنتحرة يأسا و قنوطا ليجدنا كما نحن لا تغيُّر و لا تجدُّد لا في الشكل و لا في الجوهر اللهم إلا فنونا جديدة قديمة مستحكمة في النفوس من الاتكاء و الاتكال على قديم كان متواضعا ـ في معظمه ـ أيامه قياسا و مقارنة بالتجارب الإقليمية و الدولية و لم يعد مجديا البتة في أيامنا هذه .
خمسة و خمسون عاما مضت منذ رحيل المحتل ـ غير مأسوف عليه ـ و لا تزال البلاد في مؤخرة المؤخرة رغم كثرة الموارد و وفرة أسباب التقدم من ثروات طبيعية و حيوانية و أراض صالحة للزراعة إضافة إلى قلة تعداد السكان ما يسمح بتوفير فائض معتبر من هذه الثروة يمكِّن من إقامة المنشآت الحيوية و الصروح التعليمية و الخدمية على بنى تحتية كاملة متكاملة تجعل من المطار و ما شاكله مشاريع تنموية واعدة و واجهات جمالية على العالم الخارجي تغري أرباب الذوق و أباطرة المال و ليست محاولة يائسة لامتصاص و جسر الهوة بين المهدور و المنجز بالقفز غير المتقن من القاع إلى القمة و لا هروبا من الواقع الأليم إلى سراب الأماني و أحلام اليقظة .
خمسة و خمسون عاما و مازال البلاد تئن تحت وطأة الهموم تتقاسمها و تتوزعها الاحتياجات الأمنية و المعيشية و التصدعات الاجتماعية ينضاف إليها ألم الحسرة و الشعور بالعجز عن مواكبة التطورات المتلاحقة و السرعة التي يسير بها العالم في رحلته الأبدية نحو الرقي و الكمال ، فلا تجد المسكينة بدا من اللهاث خلف الركب بالة صداها بالدموع رغم وفرة الينابيع و مماطلة السغب و الجوع بلعق الجراح البليغة النازفة رغم كثرة المآدب و مواطن الرعي ، و راسمة رغم كل ذلك على محياها بسمة تحاول بها سرقة بعض الفرح من براثن الأحزان و عبوس الواقع و نكده لتبعث به أملا في الحياة من جديد .
من رحم الفوضى و السيبة و التحرر المطلق من كل قيود النظام و الانضباط و الخضوع لقوانين الجماعة و مصلحتها ولدت موريتانيا ولادة قيصرية أو بالأحرى قُدَّت الدولة قَدًا من جلاميد مفاهيم عصية على الترويض و التكييف مع متطلبات المدنية و الحداثة و لعل السبب في ذلك الاستعصاء عائد في جزء كبير منه إلى " الخديجية " و عدم الاكتمال في المرحلة الجنينية فلربما كنا بحاجة إلى عقد آخر أو عقدين من الاحتلال يتخلله او يتخللهما المزيد من تحطيم الشخصية و الثقافة البدويتين لصالح بناء الشخصية و الثقافة المدنيتين مسايرة لمعنى التحول الذي ولجته البلاد حتى تتجذر و تنضج فكرة الدولة الوطنية على حساب النظم القبلية البدوية المسيطرة على الوجدان و المعتمدة على مغازلة العواطف و المتشبثة بتراتبية العرف و  اعتباراته و منازله المزيفة المسيجة .                                                           
لقد أثبتت الوقائع التي تلت قيام الدولة أننا لم نكن جاهزين لتطويرها و المحافظة عليها فقد ظل النفوذ القبلي طاغيا و مفهوم الدولة مغيبا كأبرز أدلة الخديجية التي أشرت إليها سابقا كما يبدو ذلك جليا في حالة السقوط و حال التيه التي تردت فيها البلاد عندما أطاح الضباط بالحكومة المدنية و لم تستطع النخب حتى الآن اعادة القطار إلى الجادة رغم معرفة الجميع اليقينية أن البلد يسير حثيثا نحو الهاوية ، كما أن الخوف على المكاسب التي كانت تحقق باسم القبيلة يتنافى مع القناعة بالدولة و دورها .

خمسة و خمسون عاما من الاستهلاك المسرف لتجارب الآخرين و دون منتج محلي يأخذ في الحسبان خصوصية البلد و تنوعه و دون القراءات النقدية التحليلية الجادة و النتيجة هوة سحيقة بين الواقع و الممكن تحتم علينا مراجعة حقيقية شاملة لكل ما هو قائم و تحاول الاجابة عن الاسئلة التالية : .                                                                             يتواصل .......     

الجمعة، 27 نوفمبر 2015

ما هكذا تؤكل الكتف !!!

أحمد الرجيل

من فضل الله و منه أن كل آباء الموريتانيين أبطال و مقاومون و كلهم حدث و يحدث عن صولاته وجولاته وهذه الثلاثة ملايين أعتقد أنها منحدرة من مليوني مقاوم حمل السلاح و جاهد العدو و كل يوم يخرج لنا أحد هؤلاء ليضع جوهرة كفاحه في سلك سبحاتنا حتى تكتمل حباتها و حتى يسبح بحمده المتأخرون منا وردا واجبا و آخر من أماط اللثام عن إسهاماته في تلك الجهود الخالدة  كان جد جدي الذي زارني البارحة و أنا بين النائم و اليقظان و حدثني عن اشتراكه في معركة ( ذيكي وينها ) و كيف أستطاع هو و المقاومون القلائل أن ينزلوا بالعدو خسائر فادحة و كيف أستطاع هو بحركة طرزانية أن  يجندل قائد الفيلق المعادي و كان رحمه الله غاضبا على ما قال إنه ظلم وتجاهل ممن كتب التاريخ و أكد عليه رحمة الله أنه لن يهدأ في قبره ما لم ينصف هو و زملاؤه و تخلد معركة ( ذيكي وينهي ) بشارع أو مستشفى أو مرفأ و كان ( يتنافظ و يشاير إلين شكيت عن جنحيه لاهي إطيحو ماهو فالو ) و يضرب بيديه و رجليه حافات القبر محدثا ارتجاجا قويا خشيت أن يحدث زلزالا يرفع مد أمواج البحر فلا يبقي منا و لا يذر .

كان واضحا عليه ـ رحمه الله ـ عدم الاكتراث لصرخات الصغار الذين يتضورون جوعا بعد أن عدت البارحة صفر اليدين مستترا بالظلام عن ( مُولَ الْفُورْ و مول البتيك ) الذين يتربصان بي بعد أن تعثرت في سدادهما أشهرا عديدة و نجحت في الافلات منهما بالرجوع متأخر و الهروب مبكرا حفاظا على ما بقي لي من ماء وجه بعد أن أهدر الكثير منه تصبب العرق من الركض خلف سراب طلب العيش بل قد عدت مستترا عنهم هم حتى لا يروا في عيني الدموع و الذل و الانكسار فقلت له مستدرا عذره و مشفقا على نفسي يا والدي ألا ترى ضعف قوتي و قلة حيلتي و هواني على من كتب التاريخ ؟ ألا ترى ـ يا رحمك الله ـ هذه البطون الجائعة و هذه الأفواه المفتوحة الباكية ؟ ألا ترى أن الأولى أن تكون معركتي مع لقمة العيش الشحيحة حتى لا يتدنس اسمك المقدس عندما يجبر الجوع أحد هؤلاء الصغار على السرقة أو احتراف القتل ارتزاقا ويسجل في محاضر الشرطة (( هذه سوأة مجهول بن منكور بن ما ريناه بن ( هيان بن بيان الذي هو أنت ) . )) ؟؟؟ فرد في غلظة متناهية : ليس بمارو و الحم و امبورو وحده يحيى الانسان . فطرت للوهلة الأولى فرحا بوجود شيء آخر يمنح الحياة غير هذه الأشياء التي أرهقني طلابها فأنا كل همي البقاء على قيد الحياة أما التطور و مبارحة المكان و مسايرة العالم رقيا و تقدما فهي أشياء لا أسمع عنها يقظا و لا تزورني في نومي حلما قبل أن أستحضر أنه يعني حياة أخرى غير التي أنا فيها و التي قد لا تتوفر لي أسبابها فليس من المتوقع أن تستعمرنا إمبراطورية الصومال التوسعية ليتاح شرف الجهاد من جديد و تتكرر لنا معركة ( ذيكي وينهي ) حتى ننال منازل الشهداء و حتى لو فرضنا أن المستعمر حل و احتل فلن يكون ذلك مبررا للكفاح و لا المقاومة من اجل الحرية لأن المقاومة أصبحت إرهابا و أصبح الاحتلال محاربة للإرهاب . الحياة التي يعني المرحوم حياة الشهداء قال تعالى : (( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) )) ال عمران . و عرفت أن سبب لا مبالاته يكمن في كونه كفي مؤونته كشهيد فقر و أطمأن أما أنا فأعلم أن موتي إن كان برصاصة فستكون رصاصة حارس إحدى عمائر الميسورين عندما أقرر أخيرا السطو عليها بعد أن أستنفد كل الطرق الشريفة بلا جدى .                                                           

الأحد، 15 نوفمبر 2015

نحن صناع الارهاب


أحمد الرجيل
صناعة الارهاب عمل دأبنا جميعا على ممارسته عمدا أو خطئا يستوي في ذلك من من أطر الارهابيين فكريا و أخلاقيا و من برر الارهاب قياسا و من أدانه إنتقاء فلا يزايد أحد على أحد فكلنا وضع لبنة في ذلك المجسم المقيت ، من يدين الارهاب بإنتقائية هو من صناع الارهاب ، و من يستعظم إرهابا و يسترخص آخر هو من صناع الارهاب  تماما كما الممول المؤطر و المنسق و المرشد الروحي .
تغنوا ما شئتم بفرنسا و أبكوا ضحايا الارهاب فيها و ضعوا أعلامها قبلة  إليها تتجهون من حيث خرجتم وستظل فرنسا بلدا إستعماريا أجرم في حق الكثير من الشعوب فأزهق ملايين الأرواح و نهب الكثيرة من الثروات و عندما قرر الرحيل ترك الكثير مما يدان و يعاب عليه و ما يمكن أن  يديم العداء قرونا ، و كان حاضرا في معظم الكوارث التي حلت و تحل القارة الافريقية كما هو الحال مع بقية دوائر نقوذه الاخرى في بقية القارات .
اسمحوا لنا نحن ايضا أن نضع ما نريد من أعلام و أن نتحسس أوجاع  من نريد و أن نشارك صور حفلات الشواء التي أقبمت في الهواء الطلق لأطفال و أمهات و عجائز الروهنكا و صور أشلاء الفلسطينيين . اسمحوا لنا بذلك فنحن و أنتم مغلوبون و مقهورون مهدورون و عبيد عواطفنا تحركنا الانفعالات بعيدا عن فيزياء العقل و سبيله الرشيدة . سنقبلكم أصواتا نشازا جديرة بالاحترام بيننا كما تقبل فرنسا ذوي الحس الانسان فيها الذين يهتمون بالانسان و حقوقه وفق النواميس و الأخلاق الانسانية لا على أساس المعادلات السياسية و المصلحية و تعدهم أصواتا نشازا لكنهم يثبتون لها تنوعا ما فتئت تدعيه و تتشدق به كما تبرهن بوجودهم على ديمقراطيتها القشرية و هذا القبول يستوجب منكم ـ كأخيار ـ أن تقبلونا و تقبلوا شرنا كما يقبل أولئك الخيرون شر فرنسا و إن فرضت عليهم الحال أن يرفضوه رفضوه هونا و بتعقل .
أخيرا يحتاج تبادل القبول هذا الكثير من التفاعلات الذاتية ذلك أننا و إياكم نخلط كل شيء بكل شيء نخلط الدين بالعادة و الواقع بالأمنية وكل حادث عارض أو منهجي بالمبدإ كما نخلط الإختلاف في الرأي بالعداوة خلطا عجينيا لا يسمح بسل أحدهما من الآخر .
                 كان الله في عوننا و عونكم ما أتعسنا جميعا

الأحد، 25 أكتوبر 2015

التجديد : بين التطرف و الاعتدال و العزل و الاحتضان .

أحمد أرجيل

من الطبيعي جدا في زمن الانكشاف على العالم والاكتشاف أن يموج بلد كموريتانيا ـ كان إلى وقت قريب منتبذا قصيا عصيا على التكيف مع ثقافة المدنية والحداثة بحكم موقعه الجغرافي المحصور من كل الجهات بالعوائق الجغرافية ( الصحاري القاحلة و المحيط الأطلسي ) و ما فرض عليه ذلك الموقع من عزلة أنتجت بداوة متجذرة الأمر الذي يحجم ـ إن لم نقل يمنع ـ تفاعله وتكامله مع المراكز الحيوية التي تتحكم في حركة العالم ومسيرته نحو الرقي والتقدم ـ أقول أن يموج بما نشاهد الآن من صراعات و مشاحنات طائفية و تدافع بين ثقافة قائمة عتيقة مهيمنة على المشهد وبين رؤى جديدة تعمل جاهدة لإيجاد مواقع لها على الساحة الاجتماعية بعدما تأكدت أن تلك الثقافة لم تعد تمثلها أو تستجب لحاجاتها أو أنها لم تعد مجبرة على مسايرتها و الخضوع لها إذا كان قبولها سالفا بالجبر و الإكراه . ولا غرابة في أن تمس هذه الرؤى في بداياتها كل موروث قيمي في أثناء بحثها المتخبط عن الجادة الصحيحة بعدما فقدت الثقة في ما هو قائم و لما تهد بعد إلى البديل الأنجع والأسلم.                                                                                                           
وهذه القيم ميدان الصراع هي خليط عجيب تمتزج فيه الخرافة بالحقيقة والثابت بالمتحول و الدين بالعادة  مسيجة بالرؤية الخاصة والتفسير الذاتي للظواهر الحياتية المستند ـ غالبا ـ إلى المصالح الشخصية أو الفئوية التي أنتجتها وحمتها العزلة والعيش في حيز الفوضى ردحا من الزمن و الترعرع خارج نظام ملزم أو تحت رعاية سلطة سياسية جابرة .                          
و نتيجة لهذا التداخل والتماهي بين عناصر الثقافة العتيقة فإن الأنماط الجديدة المتمردة وهي في بداية اندفاعتها  لا تستشعر ضرورة غربلتها وتمييزها والفصل بين القيم الثابتة التي لا تقبل المساس أو الاقتراب وبين الاجتهادات المتجددة والمتغيرة حسب الظروف والأحوال وما هو متاح من أدوات التوظيف لهذا الاجتهاد أو ذاك .                                                                                                                          
ربما يرجع السبب في ذلك إلى الجهل بوجود هذه الفوارق ـ أصلا ـ و ربما يكون مع سبق إصرار وتبييت نية إلا أن كل ذلك يبقى قابلا للترويض و التهجين مادام ممارسة علنية ستتقوم ذاتيا بفعل تراكم التجربة و عاملي التأثر والتأثير بالتفاعل مع البيئة و المحيط و لا يعدو الشطط في الطرح الذي يعتري بعضه أن يكون تفريغا لمرارات و نفثا لآهات موروثة استوطنت البواطن و تصدأت في الصدور يساعد إخراجها على استعادة التوازن و الهدوء و التوطئة لعودة العقل بعد خمود جذوة العاطفة المجيشة المتغذية على الغبن و الإقصاء و المظلومية التاريخية وعلى الرغم من الشدة و الحدة اللتين تصطبغ  بهما بعض الخطابات فإن عزلها وتركها تنمو منفردة و تتكاثر سفاحا مع ذاتها دون أن تتلاقح التلاقح الطبيعي مع مجتمعها و محيطها يبقى أشد و أنكى .                                                                                                                                                              
كانت لحظة اكتشاف العالم لحظة فارقة في حياة البلد نظر فيها المجتمع نفسه بعين الناقد المقارن وقاس درجته بالمعايير العالمية وعرض ثقافته وفهمه للحياة على موازينها فأكتشف انتماءها إلى غابر العصور و تخلفها وتأخرها وكمَّ وحجمَ الغبن الهائل الذي يعاني منه الكثيرون فانفلتت المشاعر و كوامن النفوس من عقلها منادية على نفسها بالمدروس و المرتجل و الراشد و السفيه من الوسائل والأدوات في رحلة بحث صاخبة ومضنية عن الذات و الحقوق تقودها العواطف و الانفعالات و يسيطر على أدائها ضيق الأفق و محدودية الرؤية  ويزيدها التصاقا بذلك النهج ما تقابل به من رفض و تسفيه و وسم بالعمالة فلا تجد مناصا من التشدد و التكتل حول الذات لخلق هوية خاصة تجتذب الآمل و المحبط و المؤمن و من تكلف  فتتوطد الفئوية و تترسخ  و يقتصر الهدف ـ في أحسن الحالات ـ على ترقيعات فئوية بحجة المشاركة سرعان ما تتكشف سرا بيتها  و بعدها عن الصواب ، بل وتأسيسها لميلاد كون فدرالية شرائحية قاتلة تتقاسم الموارد و النفوذ وفقا لمحاصصات لا تقيم للكفاءة وزنا و لا للفرد خارج الفئة قيمة أواعتبارا .                                                                                                                                               
بات لزاما ـ في ظل هذه الأوضاع ـ طرق باب تحاشى كثيرون الخوض فيه خشية التصنيف الذي يستخدم من قبل " المحافظين " ـ حتى يكون التوصيف  مهذبا ـ خنجرا للطعن في خاصرة إرادة التغيير وللإجهاز على الثقة التي يلزم بناؤها وجود آراء مستقلة غير محسوبة على توجه ولا تيار وتحتفظ لنفسها بهامش حركة واسع يمنحها القدرة على مخاطبة أكثر من جهة و العمل مع أكثر من تيار لخلق بيئة ثقافية خصبة تستنبت الإصلاح و تساهم في تسويقه و إيصاله إلى جميع الفرقاء  .                                                                                                  
و تجدر الاشارة هنا إلى أن ما تغص به هذه المرحلة في ظاهره تجاذبات و تشنجات فئوية أما في حقيقته فإنه إعادة تشكل ثقافية معقدة و ولادة قيصرية لمستوى جديد من الوعي لم تسلم منه أمة من الأمم في لحظة اكتشاف زيف المسلمات و قصورها عن توفير الحاجة و لحظة الإفاقة من سكرة الأمنية على الحقيقة و الواقع و اكتشاف الفجوة السحيقة بينهما ، كما يمكن اعتباره أو تحويله بقليل من الحكمة و الاحتراف إلى غزل ثقافي مقدمة لتزاوج طبيعي يجسر الهوة بين المحافظة والتجديد و المبدإ و الاجتهاد و التمادي في الظلم و المبالغة في التظلم .                                                                                                                                                                                                                                       
وبالاقتراب أكثر من تفاصيل المشهد الموريتاني و تحديدا في مجتمع البظان ( كما يحلو للبعض تسميته و أنا منهم طبعا ) تبرز كتجل لهذا الرفض والصراع بعض العناوين الأكثر حضورا  وتعبيرا والتي سأكتفي منها ب " إيرا و حراك لمعلمين " في إشارة موجزة إليهما مثالا لا حصرا ، ( للموجود والمرتقب ) تحاول النفاذ إلى عمق المنظومة الثقافية التي أنتجتهما و وفرت لهما الظهير و المسند ، و كعرض من أعراض التدافع الثقافي الضروري في حياة الأمم و غيض من فيض غبارها و هي تقد السير في رحلتها الأبدية نحو الكمال  ، كما و باعتبارهما وضعا قائما له ماله وعليه ما عليه لا ينبغي تجاهله بغض النظر عن تبنيه أو رفضه .                                                                                               
لست هنا في وارد التزكية أو الإدانة لأشخاص الحراكين و لا يعنون ( الأشخاص ) لي شيئا على الاطلاق في حين تعني لي طروحاتهما و منطلقاتهما كل شيء و سأكتفي بذكر الدافع المعلن لكليهما دون التطرق إلى مصداقية الأشخاص و عمالتهم و ما يشاع  من ذلك هروبا و تهربا من مواجهة استحقاقات آن لها أن تؤدى و لم يعد ممكنا تسويفها حتى لو اتفقنا ـ جدلا ـ أن رافعها هو الشيطان الرجيم كما سأذكر ما أعتقد أنه أخطاء واقعة منهما و تجاههما على حد سواء لعل في ذلك ما يساهم في توضيح الرؤية و تجلية الاحتياج و ترسيخ مفهوم التعايش مع الاختلاف دون الانجرار إلى التخندق أو التعصب ، فبقدرما لم يعد مقبولا أو ممكنا اختزال الرؤية الجمعية وحصر التصورات في الثقافة التقليدية أو التسليم بدكتاتورية الموروث و سلطته المطلقة فإنه يجب ـ أيضا ـ الوقوف بحزم أمام أي مسلك من شأنه أن يدعم فكرة الرمز العظيم أو الرمز المؤله سواء كان فردا أو كان شريحة .                                                                                                                               
و يبدو أن مدرسة التعظيم والتأليه التي كانت تحتل موقع الصدارة في الثقافة العتيقة و تسيجت بها مقاماتها المصطنعة و تترس بها منطقها السقيم وحمته من النقد و الغربلة  قد ألقت بظلالها على الجميع ووزعت بينهم فكرة "ضرورة الانتماء إلى شيء مميز عال " فارتهنوا لها و بدؤوا بصناعة آلهتهم و أربابهم و مرجعياتهم المقدسة و نسوا أو تناسوا أن معاناتهم ما كانت لتكون لولا تلك الأفكار التأليهية و تلك القداسات ( على وزن أيامات )  التي أضفت على البعض العصمة و جعلت اجتهاده في مقام التنزيل الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .                                                                                                  
رفعت حركة إيرا مسألة العبودية و ما كانت تعانيه شريحة العبيد ( الحراطين ) من مآسي لا يمكن مقارنتها بأي معاناة أو مأساة عاشتها فئة أخرى فهي ليست معصومة الدماء و بلا ديات و إنما لها أثمان تنقص بعيوب منها الزواج و إحصان الفروج المطلوب شرعا ولم يمنع من حق التملك و يحرم العيش في كنف عائلة بعمليات البيع و التنقل المستمر بين الملاك و المناطق غيرها و لم تنزع الولاية عمن تحت القوامة من زوجة و أبناء إلا منها هي وهذا اقتباس من تعليق لي سابق على أحد المناشير يُوصِّف معاناة هذه الشريحة : (( لم تعاني شريحة الحراطين التهميش و الإقصاء إلا مؤخرا ـ شأنها في ذلك شأن باقي الفقراء و من لا يمتلكون الجاه أو المال أو العلم  من الشرائح الأخرى ـ ذلك أن ما كانت تعانيه سابقا كان استئصالا بكل ما تحمله الكلمة من معنى و على كل جوانب حياتها فاستؤصل عقلها بالتجهيل و استؤصلت طهارتها بإشاعة البغاء بينها و عدم إنكاره عليها و إقناعها بمنزلة هي أقرب إلى منزلة الحيوان فاستمرئت الواقع و وأدت ضمائرها في رماله علها تعيش بسلام خلية من الصراع الطبيعي بين الضمير الحي الذي ينزع إلى الطهر فطرة و بين الغرائز التي لا ترحم و المستحكمة في نفوس مكدودة لا تجد في المحيط مواسيا أو منسيا للهموم غير الانغماس في الرغبة و  إشباع الغريزة حد السكر أو الغيبوبة ، كما استؤصلت اجتماعيا بوسائل التفريق المختلفة حيث ترتحل البنت المتزوجة من قبيلة أخرى بالبعض و يباع البعض لقبيلة أخرى فينتمي لها عرفا ما يعني استئصال نواة مجتمع ذي علاقة عرقية تتداخل فيه العمومية مع الخصوصية فيلجم توجه الفرد في التصرف بذاته بخطام الإرادة الجمعية لمن يرتبط بهم عضويا مع ما يوفره ذلك من بناء الخصوصية و حمايتها و إنتاج ما تدعو إليه الحاجة من القيم و المبادئ و الحمية العصبية و تبدأ رحلة التأسيس من جديد و يبدأ الركض الحثيث خلف سراب و وهم العائلة و العصبة .                                                                                                                 
و للإنصاف لم يقتصر امتلاك العبيد ( الحراطين لاحقا ) على شريحة دون أخرى فقد أمتلكهم الجميع الزوايا و حسان و إيكاون و المعلمين و ( الحراطين إلى حد ما ) و من لم يمارس عليهم ما ذكرت فذلك منه منة لا تلزمه به الأعراف الاجتماعية التي تربى عليها ( إلا من رحم ربي )  و من الطبيعي جدا أن تجد من بين أبنائها من يثور على هذا الواقع أو التاريخ ـ لأن الأمر لم يعد واقعا و إن ظلت بعض آثاره بارزة للعيان ـ و من الطبيعي أيضا إن تمر تلك الثورة أو ذلك الرفض بمراحل النمو التي يمر بها الإنسان من الجنينية إلى النضج  مرورا بالصبا و المراهقة مع ما يصاحب ذلك من سقطات و مآخذ تستمد مبرر تفهمها من مرارة الدافع و نبل الهدف و قلة التجربة  . و يتوجب على الجميع حمايتها من خطر الانعزال و التقوقع و ذلك بالاستماع و الاحتضان و الترفق الأمر الذي يسهم في نزع الشعور بالظلم و يساهم في بروز رؤى جديدة داخلها لا تنظر إلى التاريخ كمحرك و إنما تجد في المستقبل باعثا على الحركة و الأمل مع ما يتطلبه ذلك من حسابات تأخذ الشركاء و تأثيرهم و وسائل كسبهم بعين الاعتبار .  ))  و من دواعي الأسف أن النصوص القانونية المكلفة بعلاجه تعطل في جل الحالات ـ إلا أن رؤيتها ( إيرا ) لم تستطع تجاوز تلك المرارة و فشلت أدبيا في توظيفها التوظيف الصحيح الذي يقدم الحلول الجزئية في إطار شامل يرفع شبهة العنصرية و الطائفية عن خطها و خطابها  كما أن الزي الموحد الذي يلبسه بعض منتسبيها يعطيها شكلا ميليشاويا يدفع البعض إلى الاعتقاد بأن سلميتها ظرفية أو حتى أنها ليست سلمية و أن هذه اللاسلمية متدرجة و تستخدم الآن العنف اللفظي استخداما مفرطا و يطالعنا بين الفينة و الأخرى ـ و هو ما يحتم على العقلاء منها الإدانة و البراءة ـ  شباب ممن يدعون الانتماء إليها على الفيس و هم يحملون السلاح و يدعون إليه فيتذكر الآخر قصيدة نصر بن سيار (( أرى تحت الرماد وميض نار .... ))  .                                                                                               
و قام " حراك لمعلمين " على أساس مقاومة الدونية و محو مياسمها التي طبعها المجتمع التقليدي عليهم ردحا من الزمن حتى استكانوا لها إسمتراء أو تسليما ، وكانت لفظة ( لمعلم ) مقترنة زورا في ثقافة المجتمع بالشراهة و الكذب و الجبن و إخلاف الوعود والغدر بالعهود و دونية النسب بل و النسبة لغير آدم و تارة النسبة لفرعون و أخرى لليهود و هذه العناوين لا شك أنها محركة للإنسان و دافعة إلى المقاومة و التمرد و ( حراك لمعلمين ) بذلك المعنى يكون إيقاظا لهوية منومة و بعثا للروح من جديد في جسد أبلاه العزل و قتله الاحتقار و الجحود قرونا ، و عملا محمودا لرفع ظلم اجتماعي و  ثقافي ماحق و رفضا لواقع محاد لله و مجانف للفطرة السليمة التي فطر عليها القلوب و الألباب و هو عمل لا خلاف على مشروعيته و وجوبه إلا أنه من جهة أخرى كان خطابه أميل إلى التاريخ و التفاضل و التفضيل و التغني بالشريحة لإثبات حقها في رفع الظلم و فاته أن الحق في ظل الدولة الحديثة مكفول للعالم و الجاهل للصالح و الطالح . و بالغ بعضهم ـ أو لنقل ـ أكثر من البكاء على الماضي و قدم من ذلك أكثر مما أقترح من الحلول للمستقبل و يطرح بعض قيادييه خيار المحاصصة ـ صراحة ـ كحل مؤقت بديلا للإقصاء و التهميش ريثما تنضج الدولة و تبلغ سن الرشد ، و هو حل برأي أبتر سينقل المعركة إلى داخل الشريحة نفسها لمحاصصة الحصة و لا تسأل عما يستتبع ذلك ويلات كما أنه يضاعف الجهد في الحد الأدنى فأنت تهدر وقتا و جهدا في بناء مرحلة و ذات العوائق و العراقيل تظل قائمة عندما تنتقل ـ حسب رأيك ـ إلى المرحلة الاخرى  و فضل بعضهم شريحة لمعلمين على غيرها من الشرائح فعزا لها كل فضل في الصناعة و العلم و الإنتاج و الأمن حتى قال  (( لولا لمعلم لما قامت لأحد من البظان قائمة )) ، ولاشك أن هذه المجالات قاطبة أسهم فيها لمعلم بشكل معتبر و أساسي إلا أن التركيز عليه كعنصر وحيد فيها هو مجانفة للحقيقة ـ أولا ـ و إقصاء ـ ثانيا ـ   للآخرين ممجوج و مرفوض و هو سعي ـ ربما غير مقصود ـ إلى تكريس الشريحة " الإله " أو شعب الله المختار تماما كسيف الإسلام و حجته و كسمية لحوم العلماء التي تحصن بها الاجتهاد و أجلَّت العالم عن الزلل و الخطأ في ضرب واضح و فج لعرض الحائط بصريح التنزيل وصحيح السنة و مقبول المأثور قال تعالى { ((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ))146} و في الحديث :{ حدثنا الشيخ أبو بكر بن إسحاق ، أنبأ محمد بن غالب ، ثنا شهاب بن عباد ، ثنا عبد الله بن بكير ، عن حكيم بن جبير ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : " القضاة ثلاثة : قاضيان في النار وقاض في الجنة . قاض عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ، وقاض عرف الحق فجار متعمدا فهو في النار ، وقاض قضى بغير علم فهو في النار  .                                                                                                                   
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وله شاهد بإسناد صحيح على شرط مسلم . انتهى    . و ينسب  للشافعي رحمه الله : (( رأيي صواب يحتمل الخطأ و رأي غيري خطأ يحتمل الصواب )) و كل ذلك يؤكد أن  العلم ليس بالعصمة للعالم و لا قطعية على صحة اجتهاده مع الاحتفاظ للعلم بقيمته و بركته و للعالم بمقامه العالي و منزلته السامية .                                                                                               
وعلى تفاوتهما في حدة الطرح و الجرأة في النقد وفي الاقتراب من المناطق المحظورة فإن اشتراكهما في المظالم التاريخية و رفعهما مطالب تخص فئات بذاتها أجاز طرحهما وجهين لعملة واحدة وهما لسان الحال  الناطقة عن باقي الفئات و الشرائح المصنفة سفلى في المجتمع والتي ما زالت صامتة حتى حالآن صمتا لا يلبث أن يتحول إلى همهمة فدمدمة فصيحات مدوية ((مهددة بالويل والثبور و عظائم الأمور)) ما لم تتم معالجة الأسباب في إطار من العدالة الشاملة تتجاوز ضيق المظلمة  التاريخية والفئوية إلى الفضاء الرحب للآلام والاحتياجات الواسعة والمتسعة باضطراد للمجتمع و الدولة .                                                                   
و من جهتهم ما كان " المحافظون " أكثر حظا من النضج و لا أبعد توفيقا في تعاطيهم معهما فتراوح الرد بين النكران و الاحتجاج بوجود قانون لمعالجة هذه القضايا متناسين أنه و في حقيقته أعرج في بعضه و مقيد بالأعراف و المقامات في البعض الآخر ، و بين الرمي بالعمالة و تهديد الأمن الداخلي و تعريض الوحدة الوطنية للخطر في جهل صارخ و تجاهل مقيت لمتطلبات كل تلك العناوين من الاحتضان و الاحتواء و الاستماع و العدل تمهيدا للتعامل الجدي بعد ذلك مع أي عرض شاذ يخرج عليها أو يتبنى طرحامتطرفا .                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                   

السبت، 17 أكتوبر 2015

تعزية و تهنية للعامين الهجريين المنتهي و المبتدئ

أحمد أرجيل

عجبا لسبحة الحياة المتتالية الخرزات مبنى و المتعاكسة ذات الخرزات مضمونا و معنى و السائرة سيرا منتظما سلسا لا ارتجاج فيه يخل بذلك الانتظام أو يحدث تلكئا في تلك السلاسة حتى لكأنها عقد من الجواهر النفيسة صيغ خصيصا لأميرة جميلة ليلة زفافها ، فرغم التعارض البارز شكلا و جوهرا يظل إيقاعها متناغما منسابا لا يستطيع أي منها التفرد بالجادة أو الهيمنة على السبيل و لا يستساغ منه ذلك لو رامه أو هم به و كأن هذا التجاور  لتلك الأضداد ولد شرحا بينا يحتاجه كل معنى على حده .
فهاهي البداية أصل الأشياء و أساسها الذي عليه ينبني باقيها و تعني في حقيقتها الشروع في نموها و ازدهارها تذكر دائما بالنهاية نقيضها و غريمها اللدود بل أكثر من ذلك نراها ( البداية ) و هي تكافح المؤثرات بعنفوان مجتهدة في الترسخ و التوطد تربي أجنة النهاية و أسبابها ، فعثرات البداية و سقطاتها تمارين تمد المبتدئ بالقوة الجسدية و تجارب تنمي العقل و تثري الخبرة في مرحلة من مراحل الحياة إلا أنها في مرحلة أخرى تتحول إلى أسباب و عوامل للضعف و الوهن و فقدان الذاكرة . و بهذا المعنى اشتركت الرائعتان ( مرثية حسان بن ثابت رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه و سلم  و مديحية أحمد شوقي رحمه الله له ) في الروعة ا لجمال رغم تناقض المناسبتين فهذى تتغنى بالبداية و تلك تولول على النهاية .     
ولد    الهدى    فالكائنات    ضياء   ***   وفم     الزمان     تبسم      وثناء
الروح    والملأ    الملائك    حوله   ***   للدين     والدنيا     به      بشراء
والعرش   يزهو   والحظيرة   تزدهي   ***   والمنتهى     والسدرة      العصماء
وحديقة   الفرقان   ضاحكة    الربا   ***   بالترجمان        شذية        غناء
  والوحي  يقطر  سلسلا  من  سلسل   ***   واللوح    والقلم     البديع     رواء
  مديحية أحمد شوقي رحمه الله للرسول صلى الله عليه و سلم . أهنئ بها العام الجديد .
بطيبةَ رسمٌ للرسولِ ومعهدُ ** منيرٌ، وقد تعفو الرسومُ وتهمدُ
ولا تنمحي الآياتُ من دارِ حرمةٍ ** بها مِنْبَرُ الهادي الذي كانَ يَصْعَدُ
ووَاضِحُ آياتٍ، وَبَاقي مَعَالِمٍ ** وربعٌ لهُ فيهِ مصلىً ومسجدُ
بها حجراتٌ كانَ ينزلُ وسطها ** مِنَ الله نورٌ يُسْتَضَاءُ، وَيُوقَدُ
معالمُ لم تطمسْ على العهدِ آيها ** أتَاهَا البِلَى، فالآيُ منها تَجَدَّدُ
عرفتُ بها رسمَ الرسولِ وعهدهُ ** وَقَبْرَاً بِهِ وَارَاهُ في التُّرْبِ مُلْحِدُ
ظللتُ بها أبكي الرسولَ، فأسعدتْ ** عُيون، وَمِثْلاها مِنَ الجَفْنِ تُسعدُ
تذكرُ آلاءَ الرسولِ، وما أرى ** لهَا مُحصِياً نَفْسي، فنَفسي تبلَّدُ
مفجعةٌ قدْ شفها فقدُ أحمدٍ ** فظلتْ لآلاء الرسولِ تعددُ
وَمَا بَلَغَتْ منْ كلّ أمْرٍ عَشِيرَهُ ** وَلكِنّ نَفسي بَعْضَ ما فيهِ تحمَدُ
أطالتْ وقوفاً تذرفُ العينُ جهدها ** على طللِ القبرِ الذي فيهِ أحمدُ
فَبُورِكتَ، يا قبرَ الرّسولِ، وبورِكتْ ** بِلاَدٌ ثَوَى فيهَا الرّشِيدُ المُسَدَّدُ
وبوركَ لحدٌ منكَ ضمنَ طيباً ** عليهِ بناءٌ من صفيحٍ، منضدُ
تهيلُ عليهِ التربَ أيدٍ وأعينٌ ** عليهِ، وقدْ غارتْ بذلكَ أسعدُ
لقد غَيّبوا حِلْماً وعِلْماً وَرَحمةً ** عشيةَ علوهُ الثرى، لا يوسدُ
وَرَاحُوا بحُزْنٍ ليس فيهِمْ نَبيُّهُمْ ** وَقَدْ وَهَنَتْ منهُمْ ظهورٌ، وأعضُدُ
يبكونَ من تبكي السمواتُ يومهُ ** ومن قدْ بكتهُ الأرضُ فالناس أكمدُ
مرثية حسان بن ثابت رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه و سلم . أعزي بها العام المنصرم .
فيا أيها الحي لا تعميك قوة البداية و عنفوانها عن ضعف النهاية و خذلانها .

                                                             { (( كل عام و أنتم بخير )) }

الثلاثاء، 4 أغسطس 2015

الهموم و فقه الأولويات


أحمد أرجيل
تتشكل قطرات مياه بيضاء في عين العلاقة بين بعض مكونات المجتمع الموريتاني منذ بعض الوقت متحولة شيئا فشيئا إلى معضلة حقيقية ستؤثر سلبا ـ لا محالة ـ على الرؤية السليمة المفترضة لشكل هذه العلاقة التي تستمد جذورها من ثلاثية أصل الحقوق في الإسلام فِطْرَةً و هي ثلاثية الدين و القرابة و الجوار .                                                                                                                                       وتتكون هذه القطرات دائما من سخونة و ارتفاع حرارة القضايا الخارجية و على رأسها القضية الفلسطينية , فمع كل هبة مستحقة لنجدة الإخوة هناك يجد بعض شركاء الوطن أنفسهم مسرحا لجملة من الأسئلة المقلقة و المشروعة تماما رغم حساسية و حرج توقيتها و هي أسئلة تتمحور حول الأخُوَةِ الوطنية و تأثيرها على حياة الناس و تأثرها بأخُوَّاتٍ أخرى سياسية و ثقافية خارج الحدود و داخل الخط و الأيديولوجيا . أسئلة من قبيل لماذا غزة ؟ و هي المدينة العصرية التي تعيش في قلب القرن الحادي و العشرين بكل تفاصيله و معطياته العلمية و التي تتربع على من بنية تحتية تفتقر إليها عاصمتنا السياسية " نواكشوط " . لماذا الفلسطيني ؟ الذي يعيش في قلب العالم و يواكب التطور العلمي بشكل حثيث و قد تحملت المؤسسات الأممية و الدول المانحة معظم تكاليف تعليمه و صحته و إعمار أراضيه . هل يجب أن يكون العدو بشرا متوحشا محتلا قاتلا تقطر سكاكينه دما حتى يستوجب تدخل الإخوة و مؤازرتهم ؟ ، لماذا ليس الداخل الموريتاني ؟ حيث تجمعات المواطنين الذين يعيشون على هامش الهامش تفترسهم الكوارث الطبيعية تباعا و تنقض عليهم قسوة الحياة بذات الأدوات و التكتيك و ينتقل بينهم الجهل من سلف إلى خلف . لماذا ليس الإنسان الموريتاني ؟ الذي يعيش خارج الزمن في الأرياف و ينحصر حلمه في أن يجد قوت يومه أما العلاج المناسب و التعليم اللائق و تأمين الغد فذاك عين الترف الذي لا يمكن لأكثر أفراده تفاؤلا أو جنونا التفكير به .                                                         أسئلة بطعم الحنظل و ألم الفراق لا يطرحها كره فلسطين و لا عدم الإحساس بما تعانيه إنما يدفع بها من الأعماق ملفوفة بوشاح سميك من الأسف و الحرج الشعور بالإحباط الناتج عن فقدان الثقة في الشركاء في ثلاثية الدين و القرابة و الجوار ، فحين ترى خيرات بلدك ـ حتى و هي أملاك خاصة لأصحابها مطلق الحرية في التصرف بها ـ تهتم بحل مشاكل الإخوة الأباعد و تغفل همومك و مشاكلك و أنت مغترب ذليل أو طريح مرض عضال في بلدك و كل حلمك أن تجد شربة ماء أو أن يتوفر لك كفن ، يستعصي عليك كبحها فتنفلت منك مضرجة بدم الفؤاد . أليس من الأولى و الأجدى أن نلتفت إلى الداخل حتى نؤهل ماديا و علميا و صحيا و اجتماعيا جيش الفقراء العالة هذا ثم نتطلع به و بإمكانياته إلى التأثير في حياة الآخرين و قضاياهم إيجابا ؟ .                                                                                                                                                            لا شك أن الوقوف قلبا و قالبا مع الشعب الفلسطيني واجب تمليه العقيدة و روابط القربى إلا أن الاندفاع إليه بهذا القدر من الحماسة و الذي يقابله برود يصل حد التجمد أو تعاط بنكهة ذر الرماد في العيون حيال مشاكل يعيشها معظم المواطنين هي أكثر إلحاحا و أقل تكلفة و أكثر قابلية للتأثر ، يعمق الهوة بين مكونات المجتمع و يلقي بظلال من الشك على إمكانية إقامة مجتمع متجانس يؤسس لدولة العدالة التي يسترخص الإنسان نفسه و ماله و ولده في سبيلها ، و يصب حتما في مصلحة قوى التطرف و الإرهاب و يقوي أسباب التنافر بين المكونات الاجتماعية الأخرى حتى أصبحنا نسمع في خضم هذه التراشقات من يدير ظهره لفلسطين و من يعلن صراحة أن ترابها أهم عنده من فقراء موريتانيا و ضعفائها ، و ذلك هو الصريخ و النذير و هو " وميض النار تحت الرماد " .                                                                                                   

الاثنين، 20 أبريل 2015

السجال الصفري

                                                                                                 
أحمد الرجيل
 
تكشف كل هزة تتعرض لها موريتانيا أن انفصاما في الشخصية متأصلا يسكننا و يهيمن هيمنة مطلقة على تعاطينا معها و ردات فعلنا عليها و يتجلى ذلك بوضوح في التعاطي المقزز مع الإساءات الدينية و التطاول على الذات الإلهية (( سبحان ربك رب العزة عما يصفون )) و مقام النبوة الكريم المعصوم الذي أصبح ديدن البعض و مؤشرا على حركة دائبة تملأ رويدا رويدا  ما فرغ من أفئدة بفعل التوظيف  المفضوح للدين و القيم النبيلة و تسخيرها لمآرب أخرى و بات لزاما على الجميع التعاطي معها بحجم خطورتها و الابتعاد عن دفن الرؤوس في الرمال و تفسيرها بالتزلف للغرب وكونها أقصر الطرق للحصول على اللجوء .                                                                                                                                                                           و في الوقت الذي يتخبط فيه البلد و يسير حثيثا على غير هدى إلى غير هدف بسبب غياب الحكم الرشيد و البروز اللافت للزندقة و الإلحاد و في الوقت الذي يفرض النضج و التعقل علينا التكاتف حيالها و العمل معا لخلق بيئة صحية تستطيع لملمة الشتات و دهن الشعث و الوصول إلى درجة من الانسجام ـ ولو كانت بتأجيل المهم لصالح الأهم ـ تمتلئ فضاءات التواصل الاجتماعي بما يمكن نعته بالتوظيف غير الموفق من حيث التوقيت لخطايا و سيئات يتجاوز وقعها الحيز الجغرافي و الروحي لموريتانيا إلى مليار و نصف مليار مسلم في كل أنحاء المعمورة و هو أمر إن لم يتنبه له الجميع سينزع كل شرعية عن أي جهد نضالي يهدف إلى إعادة التوازن للتركيبة الاجتماعية و إعادة صياغة ثقافة مجتمعية تخدم السلم الأهلي و الوحدة الوطنية بإنصاف الجميع و بمحو الظلم و آثاره عمن لا يزال يعانيه .                                                                                                                                                              عندما تم تمزيق المصحف الشريف ثارت ثائرة البعض بلا بصيرة و هاجم المصالح العامة و الخاصة نصرة للقرآن الكريم و كأن أولئك المساكين الذين أوذوا في كتابهم المنزل ومصدر عقيدتهم هم من مزقوه و هدد هذا البعض ـ بصفته و شخصه و على مرأى و مسمع ممن يعنيهم الأمر ـ بالويل و الثبور إن لم تقبض الحكومة على الفاعل المستتر مما يعني أن الضمير العائد إليه تحدد في خيالاتهم فحاكموه و أدانوه بأدلة فهمهم أو أوهامهم و قرروا إلزام الآخرين التوقيع على حكمهم ذاك .                                                                                                                   وعندما حدثت جريمة ول أمخيطير أدانه الجميع غير أصوات نشاز على تفاوت في تلك الإدانة بَيِّنٌ و احتدم صراع مرير بين من أجمعوا على ذلك فطالب البعض بإعدامه حدا و لج في ذلك و نعته ب ( افريخ لمعلمين ) في محاولة واضحة للتأثير سلبا على (حراك لمعلمين ) الذي بدأ يشق طريقه ثابتا و رقما واعدا في المعادلة الوطنية و تناسى هذا البعض سرعة تبرؤهم منه و خصوصا أسرته ـ كما قيل ـ و أنه لم يكن ممثلا و لا ناطقا باسمهم حين كتب مقاله السوءة  .                                                  وتبرأ لمعلمين منه تبرأً لم يستطع الإفلات من شراك الكيد فطفقوا يخصفون على غليان المجتمع و تشدده تجاهه من التعليلات و القراآت الذهنية ما زاد الطين  بلة و أنه ما كان ليحظى بذلك القدر من الإدانة لو كان ينتمي لأحد البيوتات الكبيرة حسب التوصيف الاجتماعي و ذات السجال و الدوران في الحلقة المفرغة تتكرر بعد مصافحة منت أصوينع لبعض الدبلوماسيين و عقدت المقارنات بينها و بين حادثة مشابهة حدثت مع منت مكناس .                                                                              ثم كانت الطامة الكبرى و التي يشيب منها الوليد و يطيش من هولها لب اللبيب وهي إساءة ول إلمامي التي لا تفيها كل نعوت البذاءة نصيبها و ما تستحق من ذلك فكانت فتحا جديدا لهواة المناكفات و اللجاج و حلبة رحبة لمحترفي العراك و المصارعة و لم تسلم من تداعياتها خطبة إمام جامع محمد بن سعود و فسرت الصغار و المسكنة الواردتين فيها تفسيرا متحيزا و متهما و على أنهما دليل حنو و اعذار في حصرية ممجوجة للمعاني اللغوية و إجتزاء غير مستساغ قال تعالى ((قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ۘ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۗ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ )) و في معجم المعاني الجامع: (( المسكنة : فقر وضعف و حرص على طلب الدنيا )) و كفى به مذمة و لا أزكي الخطيب و لا أنفي عنه أي شيء يقال عنه لأني لا أعرفه و أمره لا يعنيني من قريب و لا من بعيد و حميتي هنا للغة و اللغة فقط .                                                                                                                                                                       يبقى القول أن كفى تماديا في السذاجة و الغباء و اعتبار الزندقة و الإلحاد تزلفا للغرب و حيلة تستوهب اللجوء فكل ذلك كذب و دجل تمليه عقدة الكمال التي نعيشها و التي تحتم علينا نكران كل منقصة نعلم يقينا أنها موجودة وسافرة . كما أنه لمن العجز المفضوح أن نتسمر في مواقفنا و نتجمد في مواقعنا و لا نستطيع استثمار المشترك بيننا إجماعا و أن نتصيد في ما تعكر من مياه الحياء و ما تجدب من صحاري النفوس رغم ندرت الطرائد .                                                                                                   

شارك

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More