‏إظهار الرسائل ذات التسميات الصفحة السياسية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الصفحة السياسية. إظهار كافة الرسائل

السبت، 15 يوليو 2017

تصحيحا لمفهوم العلاقة بالنظام



أحمد صمبه الرجيل
تتسع مساحة و مجال الاحتكاك بين المواطن الموريتاني و النظام بسعة و حجم المساحة التي يمتد البلد عليها أي 1030700كم مربع توفر هامشا و مجالا خصبا للتناول - جرحا أو تعديلا و نقدا او تزكية - في فضاء رحب يتقاسم - و إن بنسب متفاوتة - الإهمال التام و أنصاف الاهتمام . 
هذه الشمولية المتاحة تحد - بل تنفي - الفائدة من الحديث عن الإنجازات في الخصوصية الضيقة للقرية أو المدينة أو حتى لعموم الولاية . من هذا الاعتبار أو المنطلق كنت أتحاشى الزج باسم " شكار " كلما أردت الإدلاء بدلوي في نقد الواقع العبثي المزري الذي يتخبط فيه البلد منذ أمد و الذي يتفيأ منه شكار صدر الظل و يحتل صدارة الإهمال .
قد يكون الأمر مجديا - و الحديث هنا عن التثمين و النقد في النطاقات الضيقة - لو جاء في معرض الحديث عن منتخب محلي ظله ( مسئولياته ) يقتصر على دائرته المنتخبة ( بكسر الخاء ) و لا نفوذ له خارجها و لا إلتزامات قانونية و لا أخلاقية مبنية على التعاقد المعنوي بين البرنامج و الانتخاب ، بل من الجرم أن يكون له تأثير خارجها مستمد من صفة " منتخب " ( بفتح الخاء ) لأن تلك النطاقات و الدوائر تمثل - بشكل او بآخر - حدودا واجبة الاحترام لا يجوز تخطيها إلا وفق طقوس محددة و بروتوكولات ناظمة. 
لكن الأمر يختلف - جذريا - عندما يتطرق الحديث إلى تقييم أداء النظام تثمينا أو نقدا فلا بد للحديث حينها أن يتسم الشمولية و يتعالى على " النقيعات " هنا و هناك و التي تدل على أن المطر لم يكن غدقا و لا سحا و أن الانجازات ليست أكثر من هبات تقدم وفق سياقات معينة و اعتبارات خاصة . النظام يملك جواز العبور إلى كل بقعة و عليه ذلك العبور واجب ليزرع من الإصلاح كل ممكن تتيحه الإمكانات المتوافرة و هو بعد ذلك يبقى هدفا مشاعا و مباحا لعين الرقيب و لسانه . وغيابه عن أي شبر تحت مسئوليته القانونية أو السياسية يعد مطعنا عميقا في الكفاءة و جرحا ( بفتح الجيم و سكون الراء ) يمس الصدق و المصداقية . 
بيد أن ضرورة التواجد و الحضور تلك و تقديم أقصى ما يمكن لا يترتب عليها في أعناق المواطنين أي دين للنظام يجب شكره أو يلزم رده لا بالشرع و لا القانون و لا بمنطق العقل المتحرر من قوالب التبعية و التقليد الاعمى. 
فلو سلمنا - جدلا - أن شكار مدينة مكتملة النمو و تعيش كل تفاصيل مدنية القرن 21 من رفاهية في المياه و الكهرباء و الطرق و جودة الخدمات الصحية و تتوفر على كافة مراحل التعليم إلى غير ذلك مما هو معروف و كان ذلك منسحبا على بقية أطراف الوطن فإن ذلك لا يجعل من المواطن غارما للنظام و لن يجعل من النظام أكثر من خيار سياسي ضمن الخيارات المطروحة ينتقي منها المواطن و يختار . فما التوصيف اللائق به ( النظام ) و الحال على ما هو عليه ؟؟؟!!! لا أعتقد أن الجواب في مصلحته و لا يخدم العلاقة مع الناس !
ثمة نقطة أخرى يجب التنبيه عليها تتعلق بالاهمال جعلت من شكار قرية - رغم الموقع و المؤهلات - قرية هامشية و تنسف أي دين للنظام في أعناق الساكنة بل تجعله تحت طائلة المسائلة و ما هي في ذلك إلا ناطقة بلسان حال بقية البلاد و خصوصا منها تلك التي يتوفر على مقومات النهوض و التنمية و تعيش نفس الإهمال كشكار. ذلك أن شكار و ملحقاتها منطقة زراعية و رعوية لم تفتض بكارة خصوبتها - على حد علمي - منذ عشرات السنين أي بعد الجفاف و سنواته العجاف و هو ما يضاعف و يراكم معدل الخصوبة فلو أتجهت أنظار النظام و عزيمته الى هذا المكمن من مكامن القوة الاقتصادية للبلد إتجاهها و بقدر شهيتها الى التعديلات العبثية المرتقبة لأنتج من الحبوب و الخضروات و الأعلاف ما هو كفيل بتحقيق فائض من الرفاهية و لساهم بشكل فعال في العملية التنموية . أين هي هذه المشاريع الطموحة التي تتغيى ذلك الهدف و تنشده و تدفع بإتجاه تحقيقه ؟! 
جدير بالذكر أن ذلك الهدف -رغم طموحه و قصر ذات اليد - ليس مستحيلا فثمة مليارات معلنة سيكلفها الاستفتاء " السفه الخديج " بإمكانها أن تضخ فيه و في غيره من المشاريع التي تمس حياة الانسان بشكل مباشر . كما أن النظام الرشيد - الذي نفتقر إليه للأسف - من مميزاته السعي الدؤوب إلى الاستفادة من المتاح من الموارد - مهما قل - و في هذا الصدد كان عليه أن يحاول الاستفادة من مياه الأمطار التي - مع قلتها - يذهب الكثير منها سدى بتجميعها في خزانات ضخمة بغية إستخدامها في هكذا مشاريع لا شك أنها لن تثمر سريعا الا أنها تدلل على إمتلاك رؤية ثاقبة نيرة تحسن التخطيط و تستغل المتاح و ختاما لهذه النقطة أستحقت شكار بجدارة لقب " جوهرة الامل المنسية " .
يبقى القول في هذا السياق أنني لست مع الرؤى الضيقة و لا أنتمي لقوافل الجهويين الذين باتت تعج بهم الساحة و ما " شكار " إلا قيمة متغيرة ترمز ترمز لعموم الوطن أوجبت المرحلة و السياق تخصيصها بالاسم ، كما يبقى توجيه نداء إلى ساكنة شكار فحواه ألا جميل للنظام في أعناقكم فشكار توجد على هامش الإهمال فمن شاء فليصوت بنعم و من شاء فليصوت بلا و من شاء فليقاطع فالتعديلات ستمر بالشعب و بدونه و هذا وحده كفيل بترجيح خيار المقاطعة لتعرية زيف ديمقراطية مزعومة لا يتوفر منها إلا شكل الصندوق الذي يهرول إليه كل مستبد كلما أراد تمرير نزوة أو تجميل قبيح أو ستر عورة بادية دون إعتبار لما قبل او بعده . وحدها المقاطعة تضمن هزيمتهم النفسية و المعنوية و تذكرهم بماهيتهم التي لا تعدو " مزورين و متسلطين " مهما كسوا باطلهم من نسيج الانتخاب و ما تغزله صناديق الاقتراع ..                                                  أحمد أرجيل 

الجمعة، 7 أكتوبر 2016

حقيقة ما يرتكب في حق الديمقراطية و الشعب و الدستور .

أحمد الرجيل


من دواع الريبة و التوجس من سكين " المتحاظرين " المشحوذة لنحر الدستور و المسماة زورا الحوار أنها جاءت في واقع عادي جدا تطبعه الانسيابية و السلاسة فالرئيس في آخر مأموريته الأخيرة و يحظى بدعم الأغلبية الساحقة في غرفتي النواب و الشيوخ ما يسمح له بالعمل بكل أريحية و تنفيذ ما يشاء من برامج .
و كانت هذه المهزلة لتكون حوارا مبررا لو كان في المشهد معارضة برلمانية وازنة تعرقل بالتصويت خطط الحكومة و مشاريعها فلم يبق لها من هدف - قطعا - إلا نحر ذلك الدستور الذي لا ينبع من وعي جماهيري و إنما هو عصارة أدمغة نخب أدمنت النهب ثم ساقت الشعب اليه كالقطيع و مع ذلك تعبث به الآن و قبل هذا فمازلت أذكر دستور واحد و تسعين حين كان المشرفون يطلعون في بعض المراكز على أوراق المواطن و يضعون " نعم " بدلا منه .
وكانت التعديلات المقترحة لتون معقولة لو طالت مواد لم تعد خادمة أو باتت تتعارض مع مصالح وطنية معينة . أما أن تتجه إلى مواد هي في الأساس من أروع ما فيه و أكثره خدمة لقيم الديمقراطية و ترسيخ المفاهيم المدنية و التشاركية فلا يسعنا إلا أن ندد بهذا السلوك الشاذ و الجائر على هذه القيم و إن كان يتماشى تماما مع عقليات النظام و نخب الفساد و طابور الانتظار .
فليت احدهم يطلعنا على خلل في هذه المواد يستوجب تعديلها وهي : 
(( المادة 26 (جديدة): ينتخب رئيس الجمهورية لمدة خمس (5) سنوات عن طريق الاقتراع العام المباشر. يتم انتخابه بالأغلبية المطلقة للأصوات المعبر عنها، وإذا لم يحصل أحد المترشحين على هذه الأغلبية في الشوط الأول، ينظم شوط ثان بعد أسبوعين. لا يترشح لهذا الشوط الثاني إلا المترشحان الباقيان في المنافسة والحاصلان على أكبر عدد من الأصوات في الشوط الأول.
كل مواطن مولود موريتانيا يتمتع بحقوقه المدنية والسياسية ولا يقل عمره عن 40 سنة ولا يزيد عن 75 سنة بتاريخ الشوط الأول من الانتخابات، مؤهل لأن ينتخب رئيسا للجمهورية. 
يجرى الانتخاب باستدعاء من رئيس الجمهورية. يتم انتخاب رئيس الجمهورية الجديد 30 يوما على الأقل و45 يوما على الأكثر قبل انقضاء مدة الرئاسة الجارية.
يحدد قانون نظامي شروط وصيغ قبول الترشيح وكذلك القواعد المتعلقة بالوفاة وبمانع الترشح لرئاسة الجمهورية. 
يستقبل المجلس الدستوري ملفات الترشيح ويبت في صحتها ويعلن نتائج الانتخابات.
المادة 28 (جديدة): يمكن إعادة انتخاب رئيس الجمهورية لمرة واحدة.
المادة 29 (جديدة): يتسلم الرئيس المنتخب مهامه فور انقضاء مدة رئاسة سلفه. يؤدي رئيس الجمهورية قبل تسلمه مهامه، اليمين على النحو التالي:
"أقسم بالله العلي العظيم أن أؤدي وظائفي بإخلاص وعلى الوجه الأكمل، وأن أزاولها مع مراعاة احترام الدستور وقوانين الجمهورية الإسلامية الموريتانية، وأن أسهر على مصلحة الشعب الموريتاني وأن أحافظ على استقلال البلاد وسيادتها وعلى وحدة الوطن وحوزته الترابية.
"وأقسم بالله العلي العظيم أن لا أتخذ أو أدعم بصورة مباشرة أو غير مباشرة أية مبادرة من شأنها أن تؤدي إلى مراجعة الأحكام الدستورية المتعلقة بمدة مأمورية رئيس الجمهورية وشروط تجديدها الواردة في المادتين 26 و28 من هذا الدستور".
يؤدى اليمين أمام المجلس الدستوري بحضور مكتب الجمعية الوطنية ومكتب مجلس الشيوخ ورئيس المحكمة العليا ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى . ))
.

الأحد، 15 نوفمبر 2015

نحن صناع الارهاب


أحمد الرجيل
صناعة الارهاب عمل دأبنا جميعا على ممارسته عمدا أو خطئا يستوي في ذلك من من أطر الارهابيين فكريا و أخلاقيا و من برر الارهاب قياسا و من أدانه إنتقاء فلا يزايد أحد على أحد فكلنا وضع لبنة في ذلك المجسم المقيت ، من يدين الارهاب بإنتقائية هو من صناع الارهاب ، و من يستعظم إرهابا و يسترخص آخر هو من صناع الارهاب  تماما كما الممول المؤطر و المنسق و المرشد الروحي .
تغنوا ما شئتم بفرنسا و أبكوا ضحايا الارهاب فيها و ضعوا أعلامها قبلة  إليها تتجهون من حيث خرجتم وستظل فرنسا بلدا إستعماريا أجرم في حق الكثير من الشعوب فأزهق ملايين الأرواح و نهب الكثيرة من الثروات و عندما قرر الرحيل ترك الكثير مما يدان و يعاب عليه و ما يمكن أن  يديم العداء قرونا ، و كان حاضرا في معظم الكوارث التي حلت و تحل القارة الافريقية كما هو الحال مع بقية دوائر نقوذه الاخرى في بقية القارات .
اسمحوا لنا نحن ايضا أن نضع ما نريد من أعلام و أن نتحسس أوجاع  من نريد و أن نشارك صور حفلات الشواء التي أقبمت في الهواء الطلق لأطفال و أمهات و عجائز الروهنكا و صور أشلاء الفلسطينيين . اسمحوا لنا بذلك فنحن و أنتم مغلوبون و مقهورون مهدورون و عبيد عواطفنا تحركنا الانفعالات بعيدا عن فيزياء العقل و سبيله الرشيدة . سنقبلكم أصواتا نشازا جديرة بالاحترام بيننا كما تقبل فرنسا ذوي الحس الانسان فيها الذين يهتمون بالانسان و حقوقه وفق النواميس و الأخلاق الانسانية لا على أساس المعادلات السياسية و المصلحية و تعدهم أصواتا نشازا لكنهم يثبتون لها تنوعا ما فتئت تدعيه و تتشدق به كما تبرهن بوجودهم على ديمقراطيتها القشرية و هذا القبول يستوجب منكم ـ كأخيار ـ أن تقبلونا و تقبلوا شرنا كما يقبل أولئك الخيرون شر فرنسا و إن فرضت عليهم الحال أن يرفضوه رفضوه هونا و بتعقل .
أخيرا يحتاج تبادل القبول هذا الكثير من التفاعلات الذاتية ذلك أننا و إياكم نخلط كل شيء بكل شيء نخلط الدين بالعادة و الواقع بالأمنية وكل حادث عارض أو منهجي بالمبدإ كما نخلط الإختلاف في الرأي بالعداوة خلطا عجينيا لا يسمح بسل أحدهما من الآخر .
                 كان الله في عوننا و عونكم ما أتعسنا جميعا

الثلاثاء، 4 أغسطس 2015

الهموم و فقه الأولويات


أحمد أرجيل
تتشكل قطرات مياه بيضاء في عين العلاقة بين بعض مكونات المجتمع الموريتاني منذ بعض الوقت متحولة شيئا فشيئا إلى معضلة حقيقية ستؤثر سلبا ـ لا محالة ـ على الرؤية السليمة المفترضة لشكل هذه العلاقة التي تستمد جذورها من ثلاثية أصل الحقوق في الإسلام فِطْرَةً و هي ثلاثية الدين و القرابة و الجوار .                                                                                                                                       وتتكون هذه القطرات دائما من سخونة و ارتفاع حرارة القضايا الخارجية و على رأسها القضية الفلسطينية , فمع كل هبة مستحقة لنجدة الإخوة هناك يجد بعض شركاء الوطن أنفسهم مسرحا لجملة من الأسئلة المقلقة و المشروعة تماما رغم حساسية و حرج توقيتها و هي أسئلة تتمحور حول الأخُوَةِ الوطنية و تأثيرها على حياة الناس و تأثرها بأخُوَّاتٍ أخرى سياسية و ثقافية خارج الحدود و داخل الخط و الأيديولوجيا . أسئلة من قبيل لماذا غزة ؟ و هي المدينة العصرية التي تعيش في قلب القرن الحادي و العشرين بكل تفاصيله و معطياته العلمية و التي تتربع على من بنية تحتية تفتقر إليها عاصمتنا السياسية " نواكشوط " . لماذا الفلسطيني ؟ الذي يعيش في قلب العالم و يواكب التطور العلمي بشكل حثيث و قد تحملت المؤسسات الأممية و الدول المانحة معظم تكاليف تعليمه و صحته و إعمار أراضيه . هل يجب أن يكون العدو بشرا متوحشا محتلا قاتلا تقطر سكاكينه دما حتى يستوجب تدخل الإخوة و مؤازرتهم ؟ ، لماذا ليس الداخل الموريتاني ؟ حيث تجمعات المواطنين الذين يعيشون على هامش الهامش تفترسهم الكوارث الطبيعية تباعا و تنقض عليهم قسوة الحياة بذات الأدوات و التكتيك و ينتقل بينهم الجهل من سلف إلى خلف . لماذا ليس الإنسان الموريتاني ؟ الذي يعيش خارج الزمن في الأرياف و ينحصر حلمه في أن يجد قوت يومه أما العلاج المناسب و التعليم اللائق و تأمين الغد فذاك عين الترف الذي لا يمكن لأكثر أفراده تفاؤلا أو جنونا التفكير به .                                                         أسئلة بطعم الحنظل و ألم الفراق لا يطرحها كره فلسطين و لا عدم الإحساس بما تعانيه إنما يدفع بها من الأعماق ملفوفة بوشاح سميك من الأسف و الحرج الشعور بالإحباط الناتج عن فقدان الثقة في الشركاء في ثلاثية الدين و القرابة و الجوار ، فحين ترى خيرات بلدك ـ حتى و هي أملاك خاصة لأصحابها مطلق الحرية في التصرف بها ـ تهتم بحل مشاكل الإخوة الأباعد و تغفل همومك و مشاكلك و أنت مغترب ذليل أو طريح مرض عضال في بلدك و كل حلمك أن تجد شربة ماء أو أن يتوفر لك كفن ، يستعصي عليك كبحها فتنفلت منك مضرجة بدم الفؤاد . أليس من الأولى و الأجدى أن نلتفت إلى الداخل حتى نؤهل ماديا و علميا و صحيا و اجتماعيا جيش الفقراء العالة هذا ثم نتطلع به و بإمكانياته إلى التأثير في حياة الآخرين و قضاياهم إيجابا ؟ .                                                                                                                                                            لا شك أن الوقوف قلبا و قالبا مع الشعب الفلسطيني واجب تمليه العقيدة و روابط القربى إلا أن الاندفاع إليه بهذا القدر من الحماسة و الذي يقابله برود يصل حد التجمد أو تعاط بنكهة ذر الرماد في العيون حيال مشاكل يعيشها معظم المواطنين هي أكثر إلحاحا و أقل تكلفة و أكثر قابلية للتأثر ، يعمق الهوة بين مكونات المجتمع و يلقي بظلال من الشك على إمكانية إقامة مجتمع متجانس يؤسس لدولة العدالة التي يسترخص الإنسان نفسه و ماله و ولده في سبيلها ، و يصب حتما في مصلحة قوى التطرف و الإرهاب و يقوي أسباب التنافر بين المكونات الاجتماعية الأخرى حتى أصبحنا نسمع في خضم هذه التراشقات من يدير ظهره لفلسطين و من يعلن صراحة أن ترابها أهم عنده من فقراء موريتانيا و ضعفائها ، و ذلك هو الصريخ و النذير و هو " وميض النار تحت الرماد " .                                                                                                   

الثلاثاء، 31 مارس 2015

عاصفة الحزم تنعش الأمل في غد عربي

أحمد أرجيل
ترفع " عاصفة الحزم " سقف الآمال للشعوب العربية بما كشفت من إصرار على الدخول بقوة  إلى مواطن التأثير وحماية المصالح و المجالات الحيوية و ما بشرت به من ميلاد لاعب جديد في منطقة الشرق الأوسط حيث مقومات القوة  و النفوذ و دعائمهما من الأموال و التحكم في جغرافية المصالح الدولية حيث تحتضن نسبة معتبرة من احتياطيات الطاقة في العالم و تمر منها خطوط إمداد حيوية إليه ما يمنحها ميزتي "الْمَصْدَرِ و الْمَمِرِّ" و ما يوفران من مردود مادي وموقع إستراتيجي .           ضف إلى ذلك موقع الصدارة التي تحتلها و المرجعية التي تمثلها لمليار و نصف المليار مسلم . فبعد عقود من الزمن كان دور الدول العربية في ما يخص قضاياها الكبرى يقتصر على التمويل بسخاء و التفرج باستسلام على الآخرين و هم يفصلون لها حسب أذواقهم و وفقا لأمزجتهم ها هي تكسر تلك القاعدة و تمسك زمام المبادرة في قضية بالغة الأهمية الخطورة تضعها على تماس ـ يصل حد الاحتكاك المباشر ـ مع قوى إقليمية و دولية ذات حضور عسكري و سياسي هام .                            وتتطلع الشعوب العربية إلى تغير حقيقي في المواقف تجاه بقية قضايا الأمة و إلى تشكيل قوة رادعة دائمة على غرار ما يحدث في اليمن تضطلع بدور الحامي لحماها المستباح منذ سنين ، و إلى تفعيل القوة الناعمة في القضايا التي لا تستطيع فيها التدخل العسكري المباشر بأن تستثمر قدراتها الاقتصادية و دبلوماسيتها ـ التي يبدو أنها لم تعد عديمة الفائدة كما كانت ـ للدفع بمآلات الأمور و نتائجها إلى ما يخدم هذه القضايا و على رأسها القضية الفلسطينية كما تتطلع إلى تكامل اقتصادي بين دولها يغري الأطراف بالالتفات حول المركز ما يمنحه المزيد من الوزن و الثقل في المحافل الدولية و يفيد هذه الإطراف من تجربة المركز و موارده و يخفف القيود على التنقل بينها بإلقاء التأشيرات ـ أو تسهيلها ـ على غرار الاتحاد الاروبي  .                                                                                                 و يمكن توظيف جملة من المعطيات في إنجاح توجه من ذلك القبيل إذا توفرت النية الصادقة و الإرادة الجادة لذلك و من هذه الأمور : 1 ـ التراجع و التآكل المطرد لمحور المقاومة المسلحة ( جناح إيران ) في والجدان العربي بفعل الدور في سوريا و ما جلبه من كوارث و مآسي دفعت معظم الذين يتعاطفون معه إلى منطقة التيه في توصيفهم لحقيقته و ما هيته فمن جهة يجد المرؤ نفسه مجبرا على إكبار و تثمين دور إيران في المواجهات بين حزب الله ( كونه مقاومة عربية كانت لها مكانة مميزة في الشارع العربي قبل قارعة سوريا الداهية ) و بين إسرائيل و كذلك الدعم العسكري البارز لحركات المقاومة الفلسطينية المسلحة في غزة ، إلا أنه بذات القدر من الاندفاع إلى التثمين يجد نفسه ـ أيضا ـ مرتعا للريبة و الشك و التوجس و هو يرى هذا الكم الهائل من القتل و التهجير و التدمير في سوريا و على الهوية و الطائفة والمذهب .                                                                                                 2 ـ الغيمة التي تلبد سماء العلاقات بين العدو الإسرائيلي وأمريكا و ما نجم عن عجرفة نتانياهو في التعامل مع الرئيس الأميركي من فتور في هذه العلاقة و ما أنتجت من إمتعاض لدى الكثيرين حتى من بعض داعميه في الولايات المتحدة صحيح أنها  مجرد غيمة لكنها مؤشر على تراجع مجهري تدريجي في ترمومتر هيمنة إسرائيل على دوائر النفوذ هناك و تعطي الدليل الحي على أن مدها بدأ في الانحسار و ما على الدبلوماسية العربية إلا أن تقدم نفسها ككيان موحد قابل للشراكة و الشراكة فقط بما يضمن تحقيق المصالح المتبادلة و لملئ تلك الفراغات التي أحدثها العدو بطيشه و صلفه .                                                                       3 ـ قد يكون لتدهور أسعار البترول أثر بالغ على مساحة النفوذ الإقليمية لإيران بالحد من قدرتها على الإنفاق في كل اتجاه و هذا يسمح للمشروع الناشئ ـ إذا كان مشروعا ـ أن يتمدد في مجالات انحسارها خصوصا أن الأعباء المالية ستواجهها بشكل جماعي و بقدراتها المادية التي رغم تراجع أسعار النفط تظل ـ بفضل الله و منه ـ قادرة على تغذية أحلامها و مشاريعها .                          إلا أن قابلية هذا اللاعب للحياة و بروزه على مسرح الأحداث إلى أمد بعيد يستلزم جملة من الشروط تجعله قطبا مميزا أو محورا جاذبا لكل مكونات المنطقة العربية بعيدا عن التجييش الطائفي و المذهبي و هو ما يستوجب البدء في ترميم التصدعات و جسر الهوة بين مكونات الأمة و الضرب بيد من حديد على أيدي العابثين بالأمن تحت ستار الانتصار للطائفة أو المذهب و تجريم المساس بالخصوصيات العقدية لأي إنسان و تهيئة بيئة قابلة للتعايش مع الاختلاف دون الاحتكام إلى ما صنع الحداد فبعد 1400 سنة من المناظرات و الحوارات و الاقتتال دون جدوى لم يعد هناك بد من القبول المتبادل يبعضنا جملة دون تفصيل أو تفاصيل ، بمعنى أنه آن الأوان لهيمنة السياسة الإسلامية و مصالح و حاجات المسلمين على المذهبية و الطائفية و أنه آن  الأوان لمحاسبة النفس و أخذها بالحزم و لجمها بخطام المصلحة العامة التي تحسب بمقارنة الجهد و المردود .    
                                             

  

الخميس، 5 مارس 2015

سؤال اللحظة: موريتانيا الى أين تسير؟


الدكتور/ ديدي ولد السالك رئيس المركز المغاربي للدراسات

ولدت موريتانيا كما هو معروف ولادة غير طبيعية ، مما جعلها تولد بعيوب خلقية , وتلك العيوب الخلقية مع الزمن تحولت الى مشاكل بنيوية ، منها عدم شعور النخبة الموريتانية بصيغة الدولة التي تريد ، والقطيعة شبه المستمرة بين السلطة الحاكمة وثقافة البلد ، وغياب رؤية إستراتيجية أي انعدام التفكير في المستقبل وفي طريقة إدارة الدولة .. ماجعلها دائما تدار من خارج حدودها ، وقرارها معلق بالسياسات الفرنسية الإقليمية والدولية .
وبدل ان تتخلص من بعض هذه المشاكل راكمت مشاكل اضافية اصبحت مع الزمن أزمات خانقة منعكسة في ازمة التعليم .. ازمة الهوية الثقافية والسياسية.. مما جعل البلد بعد خمس عقود يدور في حلقة مفرغة ويدار بتخبط وارتجالية .
اليوم البلد يواجه خمس تحديات رئيسية كل تحدي كفيل بالقضاء عليه ، والتحديات هي :
أولا : التحدي الأمني
التحدي الأمني بعضه مرتبط بفواعل داخلية تغذيه كالفقر والبطالة والهشاشة الاجتماعية ، وبعضها مرتبط بفشل الدولة الوطنية في منطقة الساحل عموما والأزمات التي تواجهها .
ثانيا : تحدي الهجرة
الهجرة في موريتانيا ليست هجرة سرية كما في كل العالم وإنما هجرة علنية ،وخطرها يكمن في أنها غير مراقبة أمنيا ، ولاتوجد سياسة ولا رؤية استراتيجية لمواجهتها . ومما يعقد الأمر أكثر أن موريتانيا بوابة لإفريقيا جنوب الصحراء , وبوابة لمنطقة الساحل على الأطلسي ، وبوابة لدول غرب إفريقيا لقربها من ضفة المتوسط مما جعلها بلد عبور وبلد استيطان .
والهجرة ليست مجرد بشر يتحرك فقط ، وإنما تحدي يفاقم الوضع الاجتماعي والوضع الامني والوضع الاقتصادي ، والاخطر من كل هذا انه يهدد هوية البلد ويمزق نسيجه المجتمعي .
ثالثا : تحدي التفاوت الطبقي
ملف التفاوت الطبقي كان يمكن معالجته والتخلص منه عبر سياسات للتعليم تساعد علي الاندماج في الترقي الاجتماعي ، وتطور البلد اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا ، الامر الذي لو حصل لساهم في التخلص من آثار ومخلفات التفاوت الاجتماعي .
لكن فشل السياسات العمومية وغياب رؤية استراتيجة لمعالجة هذا الملف جعله يتفاقم ، وتظهر بعض تجلياته في شكل خطاب تحريضي يهدد النسيج الاجتماعي وتماسك مكونات المجتمع ، وبرز اليوم في شكل خطابات فئوية وشرائحية من أبرزها خطاب حراك المعلمين وخطاب حركة ايرا ..
والخطر في هذا الخطاب ليس في انه يطرح مشاكل إجتماعية حقيقية ويدعو لنبذ مخلفات العبودية والاقصاء الإجتماعي ، وهذا حق كل مواطن في أن يدعوا الى تجاوز مخلفات ممارسة الماضي سواء تعلق بممارسة الرق ، او أي ممارسات اقصائية ، لكن الخطر في الخطاب انه يحمل نبرة تحريضية مما يجعله تهديد حقيقي لحاضر ومستقبل البلد .
والذي يحل هذه المشاكل ليس الحل التحريضي وانما الخطاب التصالحي وتقديم سياسيات بديلة لمعالجة هذه المخلفات والنهوض بأوضاع البلد , لأن حل هكذا قضايا متعددة الأبعاد لايتأتي الا من خلال النهوض وازدهار موريتانيا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا .
رابعا : عدم الاستقرار السياسي
من المعروف أن موريتانيا دخلت دورة من عدم الاستقرار السياسي منذ الانقلاب العسكري 1978 ودورة عدم الاستقرار هذه قد طالت كثيرا مما حرم نخب البلد من التفرغ للتفكير في وضع سياسيات مناسبة لتحقيق أهداف التنمية ، فمخاطر عدم الاستقرار السياسي لاتنحصر فقط في عدم استمرار الجهاز الحكومي والاداري ، وانما تفتح المجال للتدخل الخارجي وتستنزف موارد البلد في سياسيات ارتجالية الهدف منها تشريع الحاكم بعيدا عن خدمة المصالح العليا للبلد ، كما انها تشغل النخب في معارك جانبية لاتخدم بالضرورة المصلحة العامة وتلجمها عن التفكير في الطرق والبدائل المناسبة لمواجهة تحديات التنمية والتفكير بشكل سليم في المستقبل .
خامسا : أزمة القيم
ازمة القيم تجعل المجتمع في حالة ضياع وتيه لضياع مرجعياته ، وعدم تحديد الأهداف لأن غياب المرجعيات وعدم تحديد الأهداف تجعل المجتمع في حالة سيوله وغير قادر علي الانتظام في البني والمؤسسات السياسية والاقتصادية والمدنية والاجتماعية التي تضمن خروج الانسان من البني التقليدية الى بني حديثة تعمد العلاقات فيها علي روابط وظيفية بعيدا عن الروابط العضوية التقليدية .
كل هذه العوامل مجتمعة مضاف إليها الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الخانقة تجعل حاضر ومستقبل البلد في حالة لايقينية ، ولمواجهة كل هذه الاوضاع ليس هناك خيار سوى العمل علي خلق توافق سياسي حول المرجعيات الأساسية لضمان انتقال ديمقراطي حقيقي ، وجعل النخب السياسية والمدنية والثقافية تتفرغ لهموم التنمية من أجل ضمان المستقبل .


الأحد، 22 فبراير 2015

الحوار الوطني : (( جعجعة بلا طحن )) (( أبعيد ذا لتمسوا من ذا اليوجعني ))


أحمد الرجيل

ترتفع الأصوات هذه الأيام منتقدة أو مباركة الحوار الوطني بين المعارضة و الحكومة الذي يزمع إجراؤه في غياب أي معطى يدلل على ما يمكن أن يترتب عليه من نتائج تعود بالنفع على المواطن في حياته الخاصة و على الوطن عموما في مسيرة التنمية و البناء و ذلك استنادا إلى الأرضية السياسية المهترئة التي يقوم عليها و استنادا إلى المواقع التي يتواجد فيها طرفاه ، فالنظام لا يشعر بأي نوع من القلق على وضعه الداخلي فهو يجمع في يديه كافة خيوط اللعبة و يتحكم بالمداخيل و ينفرد بالقرار و كامل الإمكانات في الدولة  لفرض رؤيته و حلوله و هو يتربع على الكرسي مطمئنا لا يضايقه وعي شعبي ضاغط أو مدرك للحقوق أو مميز ـ حتى ـ  للطبيعة المفترضة للعلاقة بين الحاكم و المحكوم . كما لا يزعجه و جود معارضة مؤسسية متماسكة تستطيع تقدم برامج سياسية واضحة تشكل البديل لما هو قائم , و هوـ علاوة على ذلك ـ أصبح قبلة لكل محبط من أدائها أو فاقد للأمل في التغيير فقرر التحول إلى ركب الانتهازيين .  و هذا الواقع المريض و المنطق الأعوج يدفعان النظام إلى التصلب و الجلوس على الطاولة مستحضرا افتقار المعارضة إلى أي أوراق للضغط و خلو سلتها من أي وسيلة للتأثير و هو الأمر يترجح معه عدم تقديم شيء ذي بال .
أما المعارضة المنقسمة على نفسها و التي لم يطلها من التغيير منذ قيامها غير التحول و التنقل الدائم بين دعم الأنظمة و معارضتها فلا يمكن التعويل عليها في فرض معادلة سياسية تلجم تغول النظام و تخفف من قبضته و ترسي دعائم الحكم الرشيد و هي التي ـ إضافة ضعف البنية ـ تجمع من المتناقضات المشربية و الخلافات الشخصية أكثر مما تتمتع به من المرونة و الاستعداد لتفهم احتياجات المرحلة خارج تصورها هي و الذي أثبت قصوره على أكثر من صعيد و تخلفه عن مواكبة التغيرات الهائلة التي شهدها العالم و انعكاساتها على الداخل ، ولو لم تكن تحمل من العيوب إلا الجمود و الرتابة في هياكلها و مفاصلها القيادية الداخلية لكفى تدليلا على ما ذكرت و هي التي لم تستطع أن تقدم قيادات شابة فاعلة لها رؤيتها الخاصة للأحداث و تصورها للحلول في إطار المشروع الحضاري الذي تتبناه و بقيت ذات الوجوه التي نكن لأشخاصها الاحترام إلا أننا في ذات الوقت نعتقد بانتمائها إلى زمن آخر و أن قدرتها على الإبداع قد  توقفت في لحظة معينة بمعنى أنها على المستوى السياسي قدمت ما تستطيع و لم يعد في جعبتها المزيد ، أقول بقيت هذه الوجوه متصدرة المشهد رغم تأثيرات عامل السن في قدرات الإنسان على التفاعل مع المحيط و مجال الحركة .
و جدير بالتوضيح أن الأمر ليس إقصاء للكبار و لا نكرانا لأدوار بعضهم التاريخية التي هي محل إجلال و إكبار إلا أن هذه الأدوار لا تمنح التزكية الأبدية أو الحصانة من النقد ، و لأن طبيعة الحياة و تقلباتها يفرضان عليهم التراجع إلى الخطوط الخلفية في معركة التنمية التي تحتاج الرجل المناسب في المكان المناسب و التي لا بد لها من الحيوية و النشاط المدفوعين من الخلف بالحصافة و التجربة .
و لا شك أن الحوار مطلب ملح و هو المدخل  الوحيد لكسر الجمود والعدمية في المواقف و لإزالة العوائق و العراقيل التي يوجدها الخلاف و التجاذب إلا أنه ـ رغم ذلك ـ يبقى مضيعة للوقت ما لم يكن الدافع إليه وعي جماهيري يحشد الجهود خلف مطلب التغيير للواقع السياسي العبثي الذي تتخبط فيه البلاد منذ عقود و يترجم ضغطا على النخب المتحاورة حتى تعي أن زمن التأليه و التفويض بلا رقيب قد ولى و أن هذا الشعب يستطيع إنتاج ما يحتاجه بما في ذلك  ممثليه و مسئوليه و ما لم يتم ذلك فلن يتحقق شيء مهم حاور النظام المعارضة أو لم يحاورها و أشركها في الغنيمة أو أقصاها . و سيبقى الولاء للسلطة مقدما على الكفاءة و ستبقى الأخطاء بلا محاسبة و الكوارث تتوالى دون تحقيق جدي يحاسب المقصرين و يردع الإهمال و عدم المبالاة مستقبلا كالحادث الذي أودى بحياة بعض جنودنا تقبلهم الله شهداء و ألهم ذويهم الصبر و السلوان . و ستبقى البرامج التنموية الشحيحة رهنا ببيع الضمائر و تزوير الولاء و يقتصر سيف محاربة الفساد على الخصوم ـ و إن ظل مصلتا فوق رؤوس الموالين ترهيبا ـ ذلك ما يفسر تعاقب الحكومات على هذا الشعب المسكين دون أن يتغير من واقعه شيء إلا إذا كان تبعا لإعتبارات المحسوبية و الجهوية أو ما كان مقايضة من أي نوع .
لقد انقلب الجيش على حكومة الأستاذ المختار ولد داداه رحمه الله و قدم في بيانه رقم واحد الكثير من الأسباب التي دفعته إلى ذلك منها ما يتعلق بالاقتصاد و رفاهية المواطن و منها ما يتعلق بالهوية و الانتماء و الحرب و السلم و الأمن و هي أسباب وجيهة و مبررة للتغيير ـ مع التحفظ على ذلك بالانقلاب ـ إلا أن ما تردت فيه البلاد من تدهور على مختلف الصعد و بلغ درجة الانهيار الكامل  على صعيد الامل في إرساء دعائم دولة حديثة و حكم رشيد في الفترة ما بين الانقلاب و انتهاء الفترة الأولى من حكم الرئيس معاوية من سنة 1978 ـ 1990 فاق ما سوقت به اللجان العسكرية ( للإنقاذ و الإخلاص و التصحيح ) انقلابها من فساد . فمتى تقتنع الأطراف السياسية أن المراجعة أولى و أجدى من الترقيع ؟ و متى يعلم المواطن أنه لن يحقق شيئا ما لم يصبح معطى فاعلا في المعادلة ؟

الجمعة، 23 يناير 2015

تحول اسرائيل من التكتيك إلى الإستراتيجية في التعاطي مع المشكلة السورية .

أحمد الرجيل


تحول إسرائيل من التكتيك الى الإستراتيجية في التعاطي مع المشكلة السورية
منذ انطلاق الموجة السورية من الطوفان الثوري العربي و ما تبعها من إصطفافات طائفية و مذهبية أدت إلى تغير عجيب في لوائح الأعداء و قوائم  الأصدقاء و التحالفات و أدت إلى خفوت نجم حزب الله  و تآكل غير مسبوق في شعبيته التي بناها منذ إنشائه كمنظمة عسكرية مناهضة لإسرائيل بعد انخراطه الرهيب و الدموي في تلك الموجة و التي قطعت أيضا الحبل السري بين فصائل المقاومة المسلحة الفلسطينية من جهة و بين إيران و سوريا الداعمين الأبرز لهذه الفصائل من جهة أخرى بالتزامن مع تدهور غير مسبوق في علاقة هذه الفصائل في غزة بجمهورية مصر العربية ، منذ ذلك الحين و أنا أتساءل عما يمنع إسرائيل من التحرك للاستفادة من هذه الظروف التي لم يَجُدْ الزمان بمثلها من قبل ،  فعلى الرغم من الحيوية و النشاط اللذين ميزا مسيرة إسرائيل منذ قيامها و اللذين تترجمهما على الأرض حربا هنا و غارة هناك و اغتيالا هنالك إلا أن ذلك ظل يحدث في مناخ عام مجمع على عدائها و على ضرورة التصدي لها و محاربتها ( شعبيا على الأقل ) الأمر الذي يجعل من طيشها و عدوانها الدموي في مجمله تكتيكا تظل نتائجه قابلة للشطب و الالغاء تبعا للتسويات السياسية و التوافقات المحلية و الدولية و في غالب الأوقات تكون اختبارات دورية لجاهزية   الخصوم و لنوع و حجم الردود و القدرات و الإرادة ( إرادة التصدي و المواجهة ) .                                                                

  و يبدو أن إسرائيل كانت تنتظر ـ للإجابة على هذا التساؤل ـ وصول تداعيات المشكلة السورية إلى نقطة اللاعودة و الطلاق بالثلاث بين طوائف الأمة و مذاهبها و هو ما قدرته فعمدت بلا حياء أو خفر  إلى عملية القنيطرة التي راح ضحيتها ضباط كبار من إيران و حزب الله ( لا يعني ذلك بالضرورة التباكي على الضحايا  رغم أن ذلك ليس جريمة فهم ليسوا أسوأ من رسامي شارلي على أقل تقدير ) و وسعت على إثرها دائرة حضورها العسكري في الجولان المحتل بهدف خلق وقائع جديدة على الأرض تستبق بها الصياغة الجديدة التي تبدو المنطقة مقبلة عليها في خرق سافر لاتفاق وقف إطلاق النار بشهادة الأمم المتحدة . بهذه العملية وجهت إسرائيل لكمتها الإستراتيجية ـ بعيدا عن التكتيك و المساومات السياسية ـ إلى جباه الجميع مرة واحدة من إيران إلى الثوار مرورا بالحكومة السورية و حزب الله و وصولا إلى الشعوب العربية بذات القوة و التأثير كل حسب موقعه من الجغرافيا السياسية و العسكرية و الثقافية للمنطقة . و مما  يرجح أن العملية ليست تكتيكا هو حجمها بحساب أحجام الضحايا و أوزانهم و بالنظر إلى ما يجب أن تقابل به من ردود ليس من المعقول الاعتقاد بأن إسرائيل لم تأخذها في الحسبان أو أن تدفعها مقابل تكتيكات الشوط الاول ، خصوصا من طرف إيران التي تتزعم أحد أهم المحاور العسكرية و العقائدية في المنطقة و التي ما فئت تتبجح بقدراتها العسكرية المتعاظمة ، و حزب الله أيقونة المقاومة المسلحة ضد إسرائيل و رمز بسالة الجندي العربي المسلم قبل التورط الدموي الرهيب في سوريا الذي كاد يمحي أي ذكر حسن له في النفوس و الذي أهدر به رصيده من الشعبية في أسواق الطائفية و بورصاتها ذلك الرصيد الذي جمعه بدماء أبنائه التي سفكتها إسرائيل في ميادين الشرف و الاستبسال ، و بما ألحق بها من آلام كانت في حصانة منها إلى وقت قريب ، و الذي  قد يسترد بعضا منه  عندما يراجع مواقفه من سوريا و يكون رده على إسرائيل بمستوى التحدي من حيث التصميم على إعادة قطار المقاومة إلى مساره الطبيعي و وجهته المفترضة . كما تشكل هذه العملية ضغطا إضافيا على النظام السوري الذي لم يتوقف طيلة أربع سنوات عن قتل شعبه و تدمير مقدراته و هو الذي أنكفأ إلى الداخل منذ عقود و أدار ظهره لإسرائيل تمطره اللكمات بمناسبة و بغير مناسبة  دون أن تتجاوز ردوده القول بأنها ((ستكون في الزمان و الكمان المناسبين )) ! . كما أنها ( العملية ) تعيد إثارة الشكوك حول طبيعة الهدوء الذي تشهد منه جبهة الجولان ما لم تعرفه سيناء بالرغم من معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية . و لبعض الحركات المسلحة في الثورة السورية نصيبها من اللوم على علاقة مزعومة بإسرائيل ما يستلزم الدخول في نوع من المواجهة معها دفعا للشبهة و دحضا للتهمة . أما النظام الرسمي العربي الذي ذرف الدموع الحارة مشكورا ! على ضحايا عملية شارلي فعليه أن يبرهن على أن عداءه للنظام السوري و حربه على الإرهاب لا يعنيان التحالف مع إسرائيل و لا دعم إرهاب من نوع آخر . أما الشعوب العربية فعليها أن تتساءل عن مدى صوابية الاقتتال المذهبي و التخندق الطائفي الذي وجدت نفسها غارقة فيه من أخمص القدم إلى أعلى الرأس و عن الفائدة المجنية من الغوص في الأحقاد التاريخية و الصدامات العقائدية التي آن لها أن ترحل إلى الدار الآخرة و سيحكم الله فيها و هو خير الحاكمين . هل استطاعت الأمة طيلة أربعة عشر قرنا بما تخللها من فترات القوة و الهدوء أن تردم الهوة العقائدية أو تحل الخلافات المذهبية  فكيف ترمي إلى ذلك حبل أمل الآن و هي في أشد فتراتها ضعفا أكثرها فوضى و اضطراب ؟ و بم ؟  بفوهات البنادق و أنصال السيوف ! و هل خلافة الله في الأرض و عمارتها تتطلب منها امتشاق السلاح و التفاني حتى الفناء دفعة واحدة و هل في ذلك إعلاء لكلمة الله ؟ إن الأمة تمتلك موروثا في التسامح و دروسا عديدة تشهد لها حقبة عمر بن عبد العزيز رحمه الله ـ مثالا  لا حصرا ـ  و موقفه  من الخوارج و هم من أكثر الفرق تشددا و أسرعها إلى السيوف و أشدها استماتة عند اللقاء و وفاء للمبدإ . أخيرا هل سيكون رد إيران مزلزلا كما قالت أم سيكون مقايضة سياسية لحلحلة ملفها النووي و إطلاق يدها في اليمن من خلال التمدد الحوثي الذي أغمض الجميع عيونهم عنه حتى الآن ؟ 

الاثنين، 12 يناير 2015

من أسباب الارهاب الخلط بين التبرير و التعليل

                                                                                                  
أحمد الرجيل
هناك فرق جلي بين التبرير و إيجاد المسوغ للأعمال الإرهابية التي تستهدف الغرب والشرق على حد سواء متجاوزة الفروق الاجتماعية و الثقافية القائمة بينهما و جاعلة من كل مخالف هدفا مشروعا وشرعيا بصرف النظر عن موقعه الديني و العقدي ، وبين التعليل الضروري الذي يرد في طيات أي حديث موضوعي عنها . ذلك أن التبرير هو إضفاء الشرعية على العمل و الموافقة عليه و تبنيه تصريحا أو تلميحا ، أما التعليل فهو تسليط الضوء عليه و إبراز العوامل المؤثرة فيه سلبا أو إيجابا وتبيان الفتائل التي تسعره و توجه دقته و تتحكم في سلوك صانعيه و مقترفيه دون أن يعني ذلك بالضرورة تبنيه أو الموافقة عليه شكلا أو مضمونا .

يجد المتابع للهجوم الإرهابي الذي تعرضت له الصحيفة الفرنسية أعماقه مسرحا لجملة من الأسئلة الموجهة إلى دعاة حوار الحضارات لعل أجوبتها تصحح نهجا خاطئا سار عليه العالم بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 م ، ذلك النهج القسري الذي أوجبته العقيدة البوشية ـ و التعبير لديك تشيني نائبه في مأموريتيه ـ و دفعت إليه الجميع دفعا دونما روية أو تفكير، تلك العقيدة التي تقول و بعين حمراء ملؤها التلويح بعصا الويل و الثبور (( من ليس معنا فهو ضدنا )) و التي لم تفسح المجال لأي أحد أو تتيح له متسعا من الخيارات لقراءة ما حدث من زاويته و الإجابة على ما طرحه من تساؤلات بصورة اختيارية بعيدا عن الجبر و التلقين ، أسئلة كان من أبرزها و أبكرها طرحا و أكثرها تعقلا ((لماذا يكرهوننا ؟ )) سؤال كان يمكن أن يكون أصلا تتفرع عنه كافة المقاربات التي تستهدف القضاء على الإرهاب ـ أمنية كانت أم ثقافية ـ و بذات السرعة التي ظهر بها السؤال رغم مركزيته في أي حل مستديم تم سحبه بحجة أنه يقدم المبرر و يوجد العذر للإرهابيين و احتلت مكانه في الصدارة قاعدة بوش فجيشت بها الجيوش و حشدت بها الأحلاف فعربدت فى الكون آلات الموت و الخراب وانحنت لجبروتها الهامات   وانقلبت الدنيا رأسا على عقب و تغيرت العقائد السياسية و رحل كثيرون إلى العالم الآخر ـ حكاما و محكومين ـ و خيم الخوف على كل نفس و في كل مكان ، و كان مركز الجماعات الإسلامية المتشددة وقتئذ أفغانستان و بعض الجيوب هنا و هناك ، أما الآن فهي تتوفر مراكز ثقل معتبرة في باكستان و أفغانستان و مالي و نيجيريا و اليمن و الصومال ، و على مصادر دخل جيدة كالتي لديها في العراق و سوريا ، و الأهم من ذلك أن عمقها البشري لم يعد محصورا في الدول الإسلامية بل أصبح يتمدد باطراد داخل الدول الغربية ما يعني أنها أصبحت شريكا على الأرض ـ بغض النظر عن قيمة أسهمه في هذه الشراكة و حجمها ـ يقنع بنهجه و يجند لأهدافه أنصارا أكثر وعيا و تعلما و خطرا و أعمق فهما و إلماما بالمجتمعات الغربية و أقدر على التواري و تضليل أجهزة الاستخبارات . كل ذلك حققته هذه الجماعات في ظل نهج عام معاد لها عداء معلنا لم يدخر جهدا في محاربتها بهدف القضاء عليها و إنهاءها و كان نصيبه من الفشل عظيما . فإلى متى ستظل عملية كسر الإرادة هذه مستمرة على حساب العقل ؟ لماذا لا يتم وضع حد و سقف لحرية التعبير تأسيا بحدود حرية الانسان التي تنتهي من حيث تبدأ حرية الاخر أو عندما تهدد أمنه و مصالحه ؟ هل فشلت عقيدة بوش و بات من الضروري البحث عن بديل ؟ و أخيرا عود على بدء لماذا يكرهونكم ؟

السبت، 27 ديسمبر 2014

حفل زفاف أم خنجر في الخاصر ؟؟؟



كان يمكن لمشهد إبنة الرئيس و هي محمولة على أعناق الرجال في طقس غاية في الغرابة عن بلدنا و مروثه الثقافي و الاجتماعي أن يمر مرور الكرام لو كان مشهدا دراميا يحكي حادثة تاريخية أو ملحمة شعبية تنتمي إلى عصر من العصورالخالية و كان الظرف الزمني مواتيا من حيث اكتمال التغيير الثقافي و ترسخ مفهوم المساوات ، و لكانت المقاربة السليمة تقتضي وضعه في السياق التاريخي الذي تستعيده الامم بين الفينة و الاخرى من أجل الافادة من إيجابياته ( التاريخ ) و الاعتبار من أخطائه و التحذير منها ، إلا أن ذلك لم بكن واردا ـ للأسف ـ فالمشهد كان حقيقيا دون مونتاج و جاء في وقت تموج فيه الساحة بالصراعات ذات العلاقة بشكله و بالرسالة التي أوصلها ـ و لو من باب الصدفة ـ دونما التباس و أخرجت النظرة إليه من دائرة الحرية الشخصية إلى آفاق المناكفات العامة ، و وضعته في مقام القادح بقوةعلى زناد اختلالات الفوارق الطبقية و المادية و تداعياتها ، وتعاضد على ترسيخ ذلك الشعور ما ولده شكل و لون حاملي العروس ، و المبالغ الطائلة التي صرفت على الحفل في الوقت الذي ينشد معظم المواطنين مؤونة ليلة أو نهار خصصا عندما نقارن ذلك بتصرفات قادة دول أحسن منا حالا و أوسع حيلة و أوفر أسباب عيش . قد يقول لي قائل (( إن الرئيس لم يتزوج و إنما إبنته )) فأقول له (( إنما هي درة عمر جعلتها على صلعة عمرو لسبب يعرفه الفقراء )) . و قدر الشخصيات العامة أن  يخضع كل فعل تقوم به أو قول يصدر عنها لدوامة من التأويل و تأويل التأويل و أن لا يركن في ذلك إلى فرضية حسن النية الذي يلتمس به العذر للناس العاديين و لذلك فإني أعتقد أن الامر يستحق الادانة .  

الجمعة، 5 ديسمبر 2014

عدالة في الشكل و جور في المضمون!


تدلل الأحكام الصادرة على حسني مبارك و نجليه و بعض معاونيه على ما أصاب الثورة المصرية من ضعف و هزال في مشاهدها النهائية و ركونها المتهافت و قبولها اللا مشروط للنهاية التي حددها النظام ، ذلك أن  العمل الثوري ليس حركة إصلاحية تهدف إلى ترميم المؤسسات و تجميلها ، بل هو إزالة كاملة لأدق تفاصيلها و  الصيرورة إلى تشييدها و بنائها فيما بعد ، و يجب أن يظل مستمرا في عنفوانه فترة زمنية كافية حتى يستأصل جذور النظام الذي قام عليه و يفكك بنيته و هياكله التنظيمية و يعيد يركيبها و صياغتها وفق رؤية جديدة و عقيدة جديدة لا تسمح لها بإعادة إنتاج نفسها ودون أن يحرم البلد من خبرتها و تجربتها أو أن يهضمها حقوقها كأفراد . عندما ما قرأت كتابا عن الثورة الفرنسية للمرة الأولى تألمت كثيرا لرؤية رجالها  الوطنيين و هم يساقون إلى المقاصل لحز رؤوسهم الواحد تلو الآخر ببنادق و حراب أصدقائهم بالأمس ، و أمتلئت حنقا على " ما را " و " روبسبير " و غيرهما من رجال لجنة الأمن العام في حقبة ما يعرف بالإرهاب ، إلا أن أحداث التاريخ يبرر بعضها بعضا و يفسره بالقياس و حساب النتائج ربحا و خسارة ، خصوصا إذا كان الحدث المبرَّرُ في صورته و مغزاه يتقدم أشواطا زمنية على عقول معاصريه إن من جهة بعد و عمق النظرة التي وضتعه، أو لجهة ما ترتب عليه لاحقا من نتائج و مآلات ، و إن لم تكن مستحضرة في مخيال صانعيه . لا أبتغي هنا تبرئة فترة الإرهاب من دماء الأبرياء ، و لا الترويج للإقصاء و لا نفي العار الذي يجلل كل أولئك الرجال على ما اقترفوه في حق الشعب الفرنسي ، إلا أنني مع ذلك لا أستطيع تجاهل الجانب الايجابي لها ( حقبة الارهاب ) و النتائج الجيدة التي تحصلت عليها فرنسا من تلك السياسة رغم قسوتها و كثرت ضحاياها خصوصا أن يد العدالة طاولت المجرمين و محاسبتهم . فقد تمكنت لجنة الأمن العام من ضبط الانفلات الداخلي و دفع الغزو الخارجي بل الانتصار عليه  في وقت قياسي و هو أمر لم يكن ممكنا إنجازه  لو كان الجميع يتحرك وفق الحرية التي خرج من اجلها و نالها و لم يعرف ماذا يصنع بها ، فتخيل أن هذا يتظاهر و يقطع الطريق و يعتصم ، و ذاك يهاجم المرافق العمومية و يدمر و يكسر للضغط من اجل تلبية المطالب و هلم جرا ـ و كلها امور تحدث باسم الحرية و الحق في التعبير و الضغط من اجل إسماع الصوت و إجبار الطرف الآخر على الاستماع إليه ـ ، ، و الاعداء على الابواب ، فماذا يفعل الجيش المشكل حديثا قليل المؤن و العتاد هل يتفرغ لفض المظاهرات و حماية المصالح او يذهب إلى الجبهة للقيام بالواجب ؟. في مقابل ذلك الحزم كان الثوار المصريون ـ إن جازت التسمية ـ اكثر إنخداعا بقوتهم و توهموا أن بإمكانهم الحشد متى شاؤوا و الاطاحة بمن لا يرضون و فاتهم أن الثورة ليست من الجبلة و أن الفطرة السليمة لا تستهونها و لا تنزع إليها لما فيها من التضحية بالنفس و إتلافها إلا كملاذ أخير فهي علاج لمرض و ليست ترفا أو نزهة تهفو إليها النفوس و تستمرؤها الاذواق  و لها شرط نادر الحدوث وهو إشتراك الجميع ـ أو الاغلبية الساحقة ـ في السخط و المظلمة و الشعور بضرورة التغيير فإن لم يتحقق لها ذلك كانت حربا أهلية أو فوضى عارمة لا تبقي و لا تذر .و أود القول كذلك أنه ثمة حاجة ملحة ـ لتثبيت أي ثورة ـ إلى إرادة حقيقية و عزم لا يلين ، و قبضة قوية ضاغطة ـ لا مانع أن تكون حديدية لبعض الوقت ـ حتى تستقر الثورة و يشتد عودها و تترسخ في النفوس ثقافتها فتتحصن بذلك من الثورات المضادة و تنعدم فرص العودة إلى الماضي .
     لا يجوز ـ عقلا ـ أن نجرم أي قاض يحكم ببراءة متهم ـ مهما كانت منزلته في النفوس متدنية ـ ما لم تكن الأدلة المقدمة ضده كافية لأدانته ذلك أن القضاء أداة للفصل في المنازعات و البت في الدعاوى و بالتالي إصدار الأحكام استنادا إلى البينات و الأدلة المادية الملموسة و وفقا للقانون، و ليس متنفسا تنفث من خلاله الاحتقانات و تجارى به العواطف أو تسترضى الانفعالات ، و عليه فالملام في الحالة المصرية هو الطيف الثوري الذي لم يكن يمتلك النفس الكافي الذي يمكنه من السباحة في اللجة حتى بلوغ الشاطئ الحقيقي ، و ألقى مرساته ـ من التعب أو الخوف من القادم أو هما معا ـ عند أول ربوة لا حت له في الأعماق خصوصا أن الثورة أبرزت الأحجام الحقيقية على الأرض و أعطت مؤشرا لا تخطئه العين لما سيكون عليه المشهد تاليا ، فرغم أنها لم تعطي أحدا فرصة الاستئثار بالمشهد أو إدعاء الهيمنة عليه ، إلا أنها أبرزت كتلا و أوزانا من طيف معين لم يكن البعض منها في الحسبان. و حجبت بغبارها وُجُوهًا كانت إلى عهد قريب رمزا للنضال ضد الاستبداد و الظلم ، و من أسباب ذلك الاستعجال أيضا ـ إضافة الى اما ذكرت ـ انصراف الاهتمام عن إستكمال الثورة إلى شحذ السكاكين و الاستعداد للفوز بالنصيب الأوفر من جمل بدا للعيان مناخه و منحره . و كانت الحرائق في ذلك الوقت تلتهم الأقسام الشرطية و المديريات الأمنية بما تحويه من أدلة و أوامر مكتوبة أو مسجلة ، زد على ذلك ما كان يتمتع به المسئولون من العلو و الفوقية على النظام  و القانون و مقدرتهم على إصدار الأوامر شفهيا مهما بلغت خطورتها بما لا يخلف دليلا أو  تتمخض عنه تبعة تمهد للمساءلة لاحقا ، و قد يقول قائل بوقوع ذلك عرضيا بالنظر إلى الانهيار الكامل لجهاز الشرطة وقتئذ ‘ إلا أن ذلك الاحتمال غير وارد باعتبار التماسك الممتاز و المحمود الذي ظهرت به المؤسسة العسكرية في تلك الظروف ، الأمر الذي يطرح التساؤل مشروعا عن الأسباب التي جعلتها تحجم عن التدخل و التحرك لوضع حد لتلك الحرائق و الأعمال الإجرامية التي تستهدف محاضر الشرطة و مدوناتها و أدلة إثباتها للوقائع قبل أن تستهدف مقارها ورجالها كل ذلك حدث في خضم ثورة عارمة اجمع الكل عليها بلا استثناء رافعا مطلب التغيير ، و لإن وجد في ذلك المناخ من لا يوافق ذلك التوجه فلن يجرؤ على المعارضة و هو ما يدفع شبهة الخوف من سوء تفسير تحرك من ذلك القبيل أو ردة فعل عليه . حدث ذلك و الثوار يشربون مع الجيش نخب الحرية و الشعب و يتغنون ب ( الجيش و الشعب إيد وحدة ) و الجيش هو ذاته الذي تدخل بكل عنف و دموية لإسقاط مرسي و فض إعتصامات الرافضين لذلك بلا رحمة و لا شفقة رغم شدة الانقسام و الاصطفاف وقتئذ   !.ألم يكن بمقدور الجيش أن يتحرك بذات الحزم و السرعة بهدف حماية ارواح المائتين و "واحد " ـ للأمانة ! ـ  الذين برأت المحكمة المتهمين من دمائهم في تمهيد واضح و فاضح لاستجلاب كبش فداء تتحدد هيويته شيئا فشيئا ، و تأمين حقوق الأفراد في  ضمان العدالة في ماجرى ، و الحفاظ على المرافق العامة و المصالح الحيوية للدولة ؟ سؤال للجيش المصري الذي كلفه مبارك بتولي الأمر لحظة تخليه عن منصبه ، و للقضاء الشامخ ! ذي العيون المغمضة عن حرق الأدلة و إتلافها .
  كانت فرنسا بداية الثورة مرمى و هدف لأحقاد و بنادق ممالك أوربا التي رأت فيها تهديدا حقيقيا لعروشها خصوصا أن الثورة أعلنت وثيقة حقوق الإنسان التي تساوي السوقة بالأشراف و التزمت بنشرها في العالم بقوة السلاح ، و كانت فرنسا حينئذ منهارة إقتصاديا و ينخرها التناقض و تموج ساحاتها بالأضداد ، فهناك اليساريون الذين يريدون قلبها جمهورية و القطيعة مع الملكية و اجتثاثها ، و هناك من يرغب في الإبقاء عليها ملكية دستورية يمتلك الشعب أمره و يحتفظ الملك ببعض الصلاحيات ، و هناك أيضا أنصار الملك و الملكية الذين يريدون العودة بالأمور إلى ما كانت عليه قبل الثورة ، ولكم أن تتخيلوا ما الذي يمكن أن تحدثه هذه الفسيفساء بأمة امتلكت توا حريتها و لا تحوز أي تجربة في ممارستها أو ثقافة متأصلة تحدد ماهيتها و ما يجوز و ما لا يجوز فعله بها .                                                                                                                  

(( قرر الرئيس محمد حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية  .... )) بهذه العبارة الباهتة أطفأ عمر سليمان وهج الثورة و حرفها عن مسارها تماما ، فقد اعتبر الثوار أن عصر الثورة قد انتهى و حل محله عصر بناء الدولة ، هكذا فجأة ! و أصمتهم آذانهم صيحات الفرح بالانتصار على شخص مبارك و كسر إرادته عن سماع باقي كلمة نائب الرئيس آن ذاك و فهمها و تحليلها (( و تكليفه المجلس الاعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد )) لم يكن من المفيد أو من المعقول أن تتولى مؤسسة أي مؤسسة كانت قائمة في العهد القديم المسئولية إلا تحت الاشراف الكامل و المباشر و الهيمنة التامة لمجلس يشكله الثوار الذين  سالت دماؤهم و فاضت في سبيل التغيير ارواحهم و صودرت حرياتهم طيلة ثمانية عشر يوما هي عمر الثورة ، فلا يحتاج المرؤ إلى عقل خارق ليستنتج ان من تم خلعه بطلت قراراته فكيف يُقْبَلُ تفويضه سلطة  تم تجريده منها بقرار من عموم الشعب أو أغلبيته الساحقة على الاقل إلى من لا يستحقها و لم يدفع فيها ثمنا و بقي موقفه متذبذبا بين الفرجة السلبية و الضغط الخفي على الثوار !، فمن شروط صحة الهبة ثبوت الْمُلْكِ و الحيازة .و ثمة قياس آخر يساعد على توضيح الخلل في الثورة المصرية ذلك أن اللجنة المكلفة بإعداد الدستور الفرنسي ظلت عاكفة عليه في خضم الاحداث  برا بقسمها الذي قطعته على نفسها بألا تنفض مهما واجهت من صعاب حتى تنجزه و منحتها الظروف منقبة ساعدت في جنوح عملها إلى مصالح الامة و ملامسة همومها ، و هذه المنقبة ـ إن جازت التسمية ـ هي أن واضعيه على قدم المساوات ثوار ينشدون الحرية و الامن و الحقوق في العيش الكريم و ليس من بينهم من يستطيع أن يفرض آراءه و أفكاره على البقية و إنما كان الجميع ضعيفا و خائفا و مقتنعا أن القوة و الامن لن يحصل عليها إلا في نظام عادل يخدم الجميع و يُخْضِعُ الجميع ، و لذلك جاء الدستور وفق رؤية الثوار  و منسجما مع إعلانهم لحقوق الانسان ، و على العكس من ذلك جاء الدستور المصري حسب رؤية الجيش الذي يمثل في الركن القوي للنظام و العكاز الذي يتكئ عليه مبارك ، و يثبت ذلك عبارة الشكر الخاطفة التي وردت على لسان الناطق باسم المجلس الاعلى للقوات المسلحة في بيان تسلم الحكم ، و لم يزد على بعض التعديلات البسيطة التي كانت المعارضات لمبارك تطالب بها على مدى سنوات ، و لم يأخذ في الحسبان ما أستجد على الارض و هو أمر ما كان ليحدث لولى خوف بعض السياسيين ممالاح لهم فجر الثورة من حتمية الجلوس على دكة الاحتياط و على هامش السياسة  و الاضواء بعد أن كانوا يتأملون أن موقعهم منهما المتن و الصدارة ، وهم الذين كانوا يشكلون الفريق الاول و اللاعبين الأساسيين  فقرروا التخلي  عن مواقعهم التاريخية ليضمنوا الحد الادنى من المشاركة ، فقدموا الغطاء المدني لتحركات العسكريين فكان ما كان .  

الاثنين، 26 مايو 2014

هكذا يجب أن نكون

أحمد الرجيل
كثيرا ما نسمع الحكومة تأخذ على المعارضة أو على المواطن العادي الذي ينتقدها  ـ والذي ليس في عير المعارضة و لا نفير الحكومة ـ أنهما لا يشيدان بما أنجزت من مشاريع و لا يريان الا الجزء الفارغة من الكأس لهؤلاء أقول : عندما تشيد المعارضة بمنجزات الحكومة فإنها لم تعد معارضة بل أصبحت مولاة تتخفى في ثوب المعارضة و يجب أن تنتظم نهارا جهارا في سلك هذه الموالاة و يصبح ما تبدي من الملاحظات لا يخرج عن النقد الذاتي الذي يراد منه تحسين الأداء و توخي الأحسن و الأفضل ، لا يعني ذالك أن المعارضة في حد ذاتها مبدأ و لا خط دائم بل هناك محطات في حياة الأمم و الشعوب لا تقبل أقل من الاجماع لأنها ثوابت يجب أن تبقى فوق الاختلاف و التجاذب إذ هي الاطار العام الذي تدور داخله بيقة التفاصيل الأخرى و لا تمثل خصوصية لأحد ، و لا يمكن إحتكارها من قبل أحد . و المعارضة في حقيقتها مشروع تنموي في الظل مجهز للصدارة و الخروج الى الأضواء يوازي تماما المشروع الذي تنفذه الحكومة ، فإذا رأت المعارضة في الحكومة و إنجازاتها ما يستحق الاشادة فإن ذلك إعتراف ضمني بعدم حيازتها لما هو أفضل و الاشادة بالتالي و الحال هذه هي إفشال دعائي لبرنامجها و تستهدف ـ جديا ـ مبرر وجودها ( المعارضة ) وهو امتلاك البديل الأفضل لما هو قائم ، و القدرة على سد الفراغ في حال فشل المشروع الحكومي ، و يجدر التنبيه أن الفشل هنا لا يعني الفشل المطلق إذ لم يسجل التاريخ أن نظاما أي نظام فشل فشلا كاملا بل هناك دائما نجاح بقدره تكون الحاجة إلى البقاء أو الرحيل . أما المواطن فإن ما يعنيه و ما يمثل له الهاجس الحقيقي هو ما لم يتحقق فمهما كان ما أنجزه  النظام و الحكومة فإنه لا يكفي إلى الأبد و سرعان ما تظهر الحاجة الملحة إلى غيره بعد الافاقة من سكرة الانبهار به ، رغم  انبنائه عليه ، زد على ذلك أن انخراط الجميع الجميع في الاشادة و التمجيد يساهم بشكل فعال في الفساد و التأليه و يتأكد ذلك عندما تكون هذه الانجازات متواضة أو معدومة قياسا بحجم التكلفة أو إذا ما قورنت بمثيلاتها في البلدان المجاورة . و في المجمل يمكن القول للحكومة : أعملي وفق المستطاع دون إهتمام بالثناء ، و للمعارضة أن تعارض دون أن تلتفت إلى تلميح البعض و إتهامها بسبب إختزال هذا البعض للوطن في ذات المؤله ! مع مراعات مصلحة الأمة ، وللمواطن أن لا يقبل منهما إلا المزيد.   

السبت، 24 أغسطس 2013

نحن والعسكر ( مَكْرَهْنِ بِيكْ يَا شَيْخْ أُمَغْلَ أعْلِيَّ لَبْنْ أنْعَاجَكْ )

الأستاذ / يحيى البيضاوي

تتظاهر الشعوب العربية بأن العقدة الكبرى التي تَحُول بينها وبين شاطئ الديمقراطيات الخضراء هي عقدة العسكر وهي المصيبة الكبرى والطامة الأدهى ... والمتأمل في الواقع العربي يدرك بجلاء تلك العلاقة الوطيدة بين ذوي الأحذية الكبيرة والسياسة ؛ حيث ظلت تلك الجيوش تدير دفة القيادة بشكل مباشر أو غير مباشر في معظم البلدان العربية ما بعد الاستعمار.
ولو استبعدنا العواطف ولغة المصالح الخاصة لأدركنا أيضا أن المؤسسة العسكرية هي أكثر المؤسسات العربية تنظيما وانضباطا ، وهي التي ظلت تحشر أنفها في كل الأزمات المستعصية ولولاها لظلت معظم البلدان العربية تحت وطأة الصراعات العرقية و المذهبية والحزبية إلى ما شاء الله .
وإذا ما واصلنا النقل الأمين عن الغرب الديمقراطي فإننا ندرك بجلاء أن المؤسسة العسكرية في الغرب هي التي وضعت عربة بلدانها على سكة الديمقراطيات الحديثة ، وهي التي أنجزت مؤسساتها وأشرفت على تأسيس الممارسة الديمقراطية وترسيخ ثقافتها ، خصوصا في فرنسا ( الراعي الأول لدول المغرب العربي ) ابتداء من نابليون وحتى ديكول الذي لا زال حزبه في فرنسا من أكبر الأحزاب و أكثرها عراقة في الممارسة الديمقراطية ..
أَحرامٌ عَلى بَلابِلِهِ الدَو حُ حَلالٌ لِلطَيرِ مِن كُلِّ جِنسِ
إذن .. أين المشكل .. ؟
أنا من دعاة التخصص وحيث ينشغل كل ذي تخصص بتخصصه ، وعليه ينبغي أن يكون العسكري ملتزما بواجباته العسكرية مستعدا لنداء الواجب في أي لحظة ، تاركا السياسية للسياسيين ، لكن لا بد أن ندرك أن مرحلة التأسيس تشكل استثناءً ، وهي تحتاج إلى كل السواعد وكل العقول ، وأحيانا تمّحي في ثناياها الحدود وتتداخل المصطلحات فليس من المنطقي أبدا أن نحرم الشعوب من قدرات فلذات أكبادها التنظيمة الهائلة، وخبراتهم الإدارية العالية، وتخصصاتهم الأكاديمية المميزة لا لشيء إلا لأنهم عسكر ..! خصوصا وأن البديل للأسف قطعان تتعارك بغية مصالحها الحزبية أو الفئوية أو القبلية عاجزة إلا عن ما تلتهمه أو تحتوشه تسعى لإفساد البلاد و العباد ، فهذا إفلاس في المنطق لا يقول به ذو عقل .
هل كان أحد يتوقع أن يزول ولد الطائع بدون تدخل الجيش ؟ وهل كان أحد يتوقع رحيل هيدالة من قبله دون تدخل من المؤسسة العسكرية آنذاك ؟ و تعالوا معي ننظر في بلدان قريبة منا كتونس مثلا وليبيا ومصر .. فلو لم تتدخل القوات المسلحة أثناء ما سمي بـ "الربيع العربي" هل كانت ثمة آمال، تستحق المراهنة، في إنهاء تلك المظالم ووضع حدّ لها ؟
إن الديمقراطية ثقافة ، وقيم ، وأخلاق ، قبل أن تكون ممارسة . ونحن قوم بداة صفر اليدين من هذا كله وبحاجة ماسة إلى مؤسسة مهابة ترعى تلك البيئة وتتعهد بذورها ، وقادرة على حماية مخرجاتها الوليدة واستنبات تقاليد التغيير السلمي وترسيخ ثقافته الديمقراطية فيها ، وبمجرد أن تتجاوز بلداننا آلام المخاض وعسر الولادة وتقف مؤسساتها على سوقها ، فلن تجد عسكريا يهم بدخول القصور الرئاسية إلا لتكريمه أو لأداء واجب الاحترام و التقدير لقادة الأمة وساستها . 
           ...................                                                                                     
                 نقلا عن يراع البيضاوي

الثلاثاء، 13 أغسطس 2013

الهوية ثقافة ـ بقلم : د . مختار ولد الغوث

د. مختار الغوث
 سرَّني كثيرا ما قرأت من تحاوُر كتَّابنا ومثقفينا الأفاضل، في هوية "البيضان الخُضْر"؛ لأن في الحوار خروجا عما ألفنا من إيثار الصمت في القضايا المهمة، خشية التنازع، وما يستتبع من فتن.
والحوار من أمثل الوسائل إلى تجاوز الخلاف؛ لأنه يُظهر ما يَخفى، ويعلِّم، ويقوِّم، ويهدي، ويقرِّب بين المتباعدين، ويعين على التلاقي على رأي أمثلَ من رأي الفرد، الذي لا يبصر من القضية إلا بعضها، وقد يتسم -إلى ذلك- بالبساطة، وقلة الاطلاع، والانقياد للعاطفة، وردِّ الفعل الذي لا ينضبط بعقل أو مصلحة. وقد ألمح الفيلسوف الإيراني، داريوش شايغان إلى أن عاقبة صراع الأفكار الانتهاء بالاعتدال والتجانس اللذين يفضيان إلى قوةٍ وتجدُّدٍ في الحضارة: "في التجاوز المنسجم لكل تحدٍّ، يصبح اعتدال القوى المتنازعة، والتجانس البنيوي بين الأفكار المتصارعة بمثابة أداة انبعاث وتجدُّد ذاتي، وخلْق قوًى جديدة. إنها ظاهرة، نلحظها -غالبا- في حوار الحضارات، وفي النهضات الناجحة". لكن هذا مشروط بحرص المتحاورين على تجاوز التخالف إلى التوافق على ما ينبغي أن يُتلاقى عليه، والصدق في استجلاء الحق والمصلحة، والتحلي بعفة اللفظ، ولين المنطق، وسلامة الصدر، والتحضر في الخلاف، والعلمية في النقاش، والبعد عن الاستثارة والدعاية السياسية. أما العزوف عن التحاور، فيصطنع من الحزازات ما لا تستحقه القضية التي يُختلَف فيها، لو قُدِّرت بقدرها؛ فتغدو العلاقات بين المختلفين مجاملات مصطنعة، وتظل وساوس الشيطان وتسويل النفس تعْمَل عملها في إفساد القلوب، وتعظيم الخلاف في النفوس، حتى يستعصي على التجاوز. هذا إلى ما يستنبت كبْت الآراء من سلبيِّ الأخلاق والثقافات، كما قال توماس جيفرسون: "إن القيود يمكنها أن تجعل هذا الشخص مرائيا، ومن ثم أكثر سوءا، ولا يمكن أبدا أن تجعله إنسانا أكثر صدقا، وقد تجعله هذه القيود أكثر ثباتا على أخطائه، فلا يرجع عنها، ولكنها لن تشفيه منها. فالعقل والتساؤل الحر هما الفيصل الوحيد المجدي ضد الخطأ. أطلقْ لهما العنان، وسيساندان الدين الحق بوضع الدين المزيف تحت الاختبار والتمحيص... لقد عانى ملايين الرجال والنساء والأطفال الأبرياء، منذ نشأة المسيحية، أهوال العذاب والتغريم والحبس، ولكننا لم نتقدم خطوة واحدة نحو الأحادية (الوحدة). وما الأثر الملموس للقسر والجبر؟ جعْلُ نصف العالم بُلَهاء، والنصف الآخر منافقين"!.
وقد رأيت أن أدلي بدلوي في هذا الحوار، لعلي أعين على تبيين خاف، أو تنبيه غافل، أو توافق على كلمة سواء. وقد آثرت في هذه المقالة أن أستعمل "البيضان الخُضْر" على المصطلح الدارج في الحسانية وبعض اللهجات المغربية (الحراطين)، لا تعجُّلا لنتيجة، لمَّا أقدِّمْ بين يديها ما يسوِّغ التسليم بها، وهو خلاف ما ينبغي في الحوار، ولا مصادرةً لرأي مَنْ قد يخالفني فيما سأقول؛ وإنما تنكُّبًا لما قد يُشعر من الألفاظ بدونية أو تمييز؛ فإن بنا حاجةً إلى تجاوز ما يحيل من لغتنا إلى غير الإيجابيِّ من ثقافتنا. لقد كافحنا حتى اطَّرحنا مفردات كانت تسيء إلى بعضنا، تعوَّدنا أن نستعملها في مثل هذا المقام، ويجب أن نتمادى في الكفاح حتى ننقي لغتنا من كل لفظ يشعر بتمييز، أو نبْز بأصل أو مهنة؛ فإن نقاء اللغة من ذلك دليل على أن ثقافتنا تتماثل من بعض العلل، وأننا نتقدم إلى تمثُّل ما أُمِرنا به من اعتماد الدين نسبا بيننا وصهرا: (إنما المؤمنون إخوة)، (ملةَ أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا).
ومعنى "الأخضر"، في العربية الفصحى، هو معناه في الحسانية (مَنْ ليس بأبيض (أصفر)، سواء أكان أسود، أم كان أسمر (بين السواد والبياض)، كقول الفضل بن العباس اللهبي:
وأنا الأخضر ما بينهمُ      أخضرُ الجلدة في بيت العربْ
وليس فيه نبز أو تلميح إلى أصل، وهو يطلق في الحسانية على الموريتانيين جميعا، كائنة ما كانت أعراقهم ومنازلهم؛ فهو ألطف من كل لفظ، تعوَّدنا أن نستعمله في هذا المعنى. ولعل استعمالنا له يكون مؤقتا، ريثما تزول دواعي التمييز من حياتنا وثقافتنا، ويستيقن البيضان جميعا أنهم مجتمع واحد، وأن الهوية ثقافة، وأن اللون ليس من الهوية؛ فما ينبغي أن يبنى عليه شعور باختلاف. وآثرت "البيضان" على "العرب" -على اعتقادي أن البيضان كلهم عرب-؛ لأن بعضنا ما يزال -بتأثُّر من ثقافته، وعدم علمه بحقيقة الأعراق، وسببِ ما يكون بين الشعوب من تباين- يظن أن العروبة عرْق، وليست بثقافة. وسأعرض للهوية من حيث حقيقتها العلمية فقط، وأتمنى على القارئ أن يقرأ ما أكتب من تلك الناحية أيضا؛ لأن السياسة مواقف مرهونة بغايات تتبدَّل، أما العلم، فثابت ثبوتا مطلقا أو نسبيا؛ لأنه مبني على حقائق، وما يُظَنُّ أنه حقائق، والحقيقة تُستكشَف، ولا تُستحدَث، أي إنها ذات وجود موضوعي خارج ذهن الإنسان، قبل أن يهتدي إليها. هذا إلى أن العلم ينبغي أن يسبق السياسة، وأن تبنى عليه، ولا يبنى عليها، إذا أريد لها السداد؛ لأنه حق، وثابت، والسياسة متغيرة، ومقيدة بالنفع، والحق والثابت، بأن يكونا مرجعا، أولى من المتغير والنافع. وإذا بُنِي الرأي على مقتضيات السياسة النفعية المتقلِّبة كان هوى، يُضِلُّ عن الحق: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن). ولن أعرض للهوية من حيث عرض لها كتابنا تنكبا لتكرار لا يفيد؛ ولأن ما عرضوا له إما حقوق، لا خلاف فيها، وإما أمور سياسية، وليست السياسة مما أعتمد في هذه المقالة. وأنا -إلى ذلك- أرى أننا إذا استيقنا وحدة هويتنا، كان للحوار، في الشأن الوطني العام، وجهة غير وجهته قبل أن نستيقن. وسأقتصر على هوية البيضان دون سائر الموريتانيين؛ لأنها هي التي دار حولها ما كتب.
والهوية هي: "حقيقة الشيء المطلقة المشتملة على صفاته الجوهرية"، وعرَّفها  "معجم أكسفورد" بأنها: "حالة الكينونة المتطابقة بإحكام، والمتماثلة إلى حدِّ التطابق التام، أوالتشابه المطلق"، وعرَّفها "معجم روبير" بأنها: "الميزة الثابتة في الذات". والتعاريف الثلاثة متطابقة في المضمون، وإن اختلفت في اللفظ، لكن تعريف روبير أوجزها وأحكمها؛ فسوف نقتصر عليه؛ لأنه يفي بما نريد. ونعني بالهوية -هاهنا- هوية الجماعة، لا هوية الفرد، فهوية الجماعة هي: الميزة الثابتة فيها، التي يتفق فيها أفرادها كلهم. والهوية عند علماء الاجتماع "تتعلق بفهم الناس، وتصورهم لأنفسهم، ولما يعتقدون أنه مهمٌّ في حياتهم, ..., ومن مصادر الهوية هذه الجنوسة (السمات التي يسبغها المجتمع على الرجولة والأنوثة)، والتوجه الجنسي، والجنسية، أو المنطلقات الإثنية (العرقية)، والطبقة الاجتماعية". وفهْم الناس، وتصورهم لأنفسهم، ولما يعتقدون أنه مهم في حياتهم, من الثقافة، أما مصادر الهوية، فيراد بها الأشياء التي تُستمَدُّ منها. والهوية، في الحق، ثقافة وليست بعرق، ولا طبقة، ولا بإقليم. أما العرق، فلا وجود له، ولا حقيقةَ معلومة، وإنما هو شيء يتوهمه العنصريون وبعض الباحثين، فالناس كلهم لآدم، "وآدم من تراب"، وهم يتساوون في هذا الأصل تساويا مطلقا، وإنما يأتي تخالفهم من قِبَل الثقافات، وليس فيهم جنس له خصائص حيوية (بيولوجية)، تميزه من غيره، وذات تأثير في عقله وسلوكه، بها يكون جنسا رفيعا أو وضيعا، كما يدَّعي العنصريون، بل لا يكاد يوجد جنس من البشر، ينتمي إلى سلالة نقية، فقد امتزجت الأعراق بالهجرات والتزاوج. ولم يستطع واحد من القائلين بتمايز الأعراق وتفاضلها، من علماء الإناسة (الأنثروبولوجيا)، أن يقيم دليلا علميا على صحة ما يدَّعي. يقول عالم الإناسة الفرنسي، كلود ليفي شتراوس: إن علماء الإناسة الجسدية، وهم يناقشون حقيقة العرق: ما هو؟ منذ نحو قرنين، لم يتفقوا على شيء ألبتة، ولا دليلَ على أنهم اليوم أقرب من ذي قبل إلى التوافق على جواب هذا السؤال؛ من أجل ذلك أقلع كثير منهم عن هذه المقولة جملة وتفصيلا. إن تاريخ مقولة العرق هو تاريخ الإخفاق الذريع الذي مُنِيت به بحوث علماء الإناسة مرارا وتكرارا، ولم يسفر الغوص في أعماق الجسد إلا عن الخيبة.
وهذا هو ما استقرَّ عليه كثير من علماء الإناسة قبله وبعده، فقد أثبت بواس، عالم الإناسة الفرنسي، الذي كان آخر علماء الاجتماع تخليا عن مفهوم "العرق" وأثرِه في تفسير سلوك البشر، في دراسة لـه، قدَّمها عام 1910 م، جمع فيها 17821 موضوعاً، أثبت، بالاعتماد على المنهج الإحصائي، سرعةَ تغير السمات الصورية للإنسان، ولا سيما صورة الجمجمة، بتأثير من البيئة الجديدة، إذ يتم ذلك في جيل واحد. وهذا يعني أنْ ليست هنالك سمات ثابتة، تميز عرقا من عرق، وإنما مردُّ الفروق الجسمية بين الشعوب إلى التكيف مع البيئة. وعدَّ مفهوم العرق مفهوما ضعيفا، لا يثبت للبحث العلمي، فلا "عرق"، في الحقيقة، ولا صفاتِ عرقيةً طبيعية ثابتة، ولو لجأنا إلى ما يسمى منهج المعدَّلات الوسطية moyennes، فإن خاصية الشعوب، من الناحية الطبيعية (البيولوجية)، هي المرونة، والتغير، والاختلاط، على عكس ما يرى العنصريون. ثم بيَّن عبثية القول بوجود علاقة بين السمات الطبيعية والسمات العقلية، وقال إنه لا يوجد اختلاف طبيعي بين البدائيين والمتحضرين إلا في الثقافة، وهو اختلاف مكتسب، وليس بغريزي. وقال إن التفسير الثقافي هو الذي يقدِّم أكثر الأجوبة إقناعاً عن سؤال الفرْق بين الشعوب، وطبيعةُ الإنسان يمكن تفسيرها كلها من الثقافة.
من أجل هذا عدَّ أكثر علماء الاجتماع والإناسة الإنسان كائنا ثقافيا، لا يملك شيئا طبيعيا (بيولوجيا) خالصا، واعتمدوا مفهوم الثقافة ورأوا أنه هو الأصلح لبيان تنوع البشر. وممن خلصوا إلى هذا أيضا كلود ليفي شتراوس، الذي قال: "إننا نعلم ما الثقافة، ولا نعلم ما العرق".
ومن طريف ما انتهى البحث من وهمية "العرق" وتفاضل الأعراق ونقائها أن تحليل حمض هتلر النووي أثبت أنه لا ينتمي إلى العرق النازي، فقد نشرت صحيفة Knack البلجيكية، يوم الأربعاء 18 من أغسطس 2010 م مقالا، هو خلاصة بحث جيني، مبني على تحليل الحمض النووي لأناس من أهل بيت هتلر، انتهى إلى أنه كان يحمل الهابلوغروب b1b1E، وهو محدِّد وراثي، أكثر من يحمله الأمازيغ، والصوماليون (أكثر من 80 %)، ثم اليونانيون والصقليون (25 %)، واليهود الأشكناز (من 18 إلى 20 %)، وقال خبير المورِّثات (الجينات)، الأستاذ بجامعة لوفن البلجيكية Ronny Decorte: "إن نتائج البحث مفاجئة، وإن هتلر ما كان ليسْعَد بها؛ فقد كان مغرما بالقول بنقاء العرق الآري، وعدوًّا لليهود".
على أننا لو فرضنا فرْضًا أن في الأعراق ما هو نقي، وأن للأعراق خصائص حيوية تتمايز بها، فليست الأعراق بالتي تحدد هوية الشعوب، وإن كان لها أثر في نباهتها أو خمولها، وجدها أو كسلها، وذكائها أو غبائها، فهذه كلها ليست من الهوية، وإنما الهوية شيء آخر، فالشعوب التي تنتمي إلى العرق الآري -مثلا- ليس بذات هوية واحدة، فهوية الفرس تباين هوية الألمان، وهوية الهنود تختلف عن هوية الروس، وكلهم آريون، وليست هوية البريتوريين هي هوية الماليين، ولا هوية التنزانيين هي هوية السنغاليين، وكلهم حاميون. فإن تنزَّلْنا من الأعراق إلى ما تحتها من الشعوب والجماعات، لم نجد لتقارب النسب أثرا في الهوية، فالكرد والطاجيك -مثلا- فُرْس، في الأصل، ولكن الشعوب الثلاثة متباينة في هويتها. وأكبر الظن أن الأحباش الذين يتكلمون الجعزية وما تفرع منها من اللغات يمنيو الأصل، هاجروا إلى الحبشة قبل الميلاد، كما يبدو من موافقة لغتهم للعربية، في كثير من مفرداتها وخصائصها، ومن قرْب الأرض من الأرض، ومن التلاقي في بعض الثقافة. ويذهب نسابو قبيلة البرنو الإفريقية إلى أنها هاجرت من اليمن على أثر انهدام سدِّ مأرب، ولكن هوية الأحباش والبرنو -اليوم- غير هوية أهل اليمن. ويرى بعض المؤرخين أن الأرنؤوط من نسل الغسانيين الذي هاجروا إلى الروم مع جَبَلة بن الأيهم، بعد ردَّته عن الإسلام، في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وأن أصل الكلمة أنهم كانوا يتعاهدون على ألا يعودوا إلى بلاد الإسلام، فيقول بعضهم لبعض: "عارْ نَعود"، ثم تطورت العبارة إلى: أرنؤوط، وإذا صح هذا، من الناحية التاريخية، فإنه لا يغير شيئا من هوية الأرنؤوط الألبانية. وفي الهند وباكستان وإيران وأفغانستان وتركية من العرب خلق كثير، هاجروا إليها واستقروا بها منذ الفتح الإسلامي، ولكنهم اليوم هنود، وباكستانيون، وإيرانيون، وترك، وليسوا بعرب.
وقد تتباين أعراق الشعب، وتكون هويته واحدة، لا ينال منها التباين، فهوية الشعب المصري واحدة، مع أنه ينتمي إلى أعراق كثيرة، منها: القبط، والعرب، والنبط، والبربر، والزنج، والترك، والكرد، والأحباش، والروم، والشركس، واليونان، والسلاف، والألبان، إلخ. وكذلك هوية أهل الشام والعراق، مع أنهم يتألفون من مركَّب من الأجناس، لا تقل عناصره عن عناصر المركب المصري. واختلطت بعرب الجزيرة شعوب، هاجرت إليها منذ الجاهلية، من الهند، وفارس، وإفريقية، والعراق، والشام، منها أسر وقبائل معروفة في الجاهلية، يقول النسابون إنها رومية الأصل، أو فارسية، ثم هاجر إلى الجزيرة، في الإسلام، أضعاف من كان بها من الأعراق، في الجاهلية، لكن هؤلاء اليوم عرب، لا مطعن في عروبتهم، ولا في هويتهم، ولا فرق بينهم وبين الذين ينتمون إلى العرق العربي. وقد حدثني، منذ نحو عامين، صديق، يدرس في كندا، أن صديقا له أجرى تحليلا لحمضه النووي، ليعرف جانبا من تاريخ أسلافه، فكانت نتيجته أنه ينتمي إلى جماعة هاجرت إلى الشام من جنوب إفريقية، منذ آلاف السنين، ثم ذهب بعضها إلى الجزيرة، وبعضٌ إلى روسية، ولا يُعرَف في الجزيرة -اليوم- من هو أعرق في العروبة من قبيلة صاحب الحمض. فالعروبة وغيرها من الهويات -إذن- ثقافة، وليست بعرق.
ومقولة العرق -فضلا عن أنها خرافة- هي التي بُني عليها أن الشرف والضعة قدَر، لا حيلة فيه إلا الرضا والتسليم، كما لا حيلة للمرء في خلقته، فالعرق العظيم عظيم، على ما كان من أهله، والعرق الوضيع وضيع، مهما عمل أهله، والمرء يولد رفيعا أو وضيعا، ويموت على ما وُلِد، ويجب أن يكون كل من العرقين في المنزلة التي أنزلته إياه الطبيعة، فيسود العظيم، ويُستَتبَع الوضيع. وقد ترتب على هذا من الظلم والعسف ما لا يعلمه إلا الله.
ومما يُبنى على وهمية العرق أن اللون ليس من ماهية الإنسان، وليس من عناصر الهوية، وإنما هو عرَض من الأعراض، قد تشترك فيه شعوب، لا أنساب بينها، كما يشترك العرب والهنود في اللون، ويشترك كثير من عرب السودان وزنجه في السواد، وقد يختلف فيه الشعب ذو الهوية الواحدة، كما يختلف عرب السودان في اللون، ويختلف النوبي المصري الأسود، والمنصوري المصري الأشقر. وهو أثر من تكيف الجسم مع البيئة، وليس خصيصة من خصائص العرق. وليس الإقليم أيضا عنصرا من عناصر الهوية، فقد يجمع أمما لا نسب بينها، كما تجمع إيران وأفغانستان وتركية -مثلا- قوميات شتى، لا تجمعها هوية، كالعرب، والكرد، والترك، والبشتون، والتاجيك، والفرس، والآذاريين (أهل أذربيجان)، والأرمن، واليهود، واليونانيين. وقد يتوزع الشعب في أقاليم شتى، وتبقى هويته واحدة، لا ينال منها التباعد، كما هي حال العرب في آسية وإفريقية، وحال الطاجيك في باكستان، وأفغانستان، وإيران، وطاجيكستان، وأوزبكستان، والصين.
إن الناس أوعية من الصلصال (خلق الإنسان من صلصال كالفخار)، تختلف ألوانها وصورها، والمادة واحدة، وإنما تتفاضل فيما توعي من المعاني، كما تتفاضل أكواب الزجاج بما يكون فيها من الأشربة، لا بمادتها التي هي واحدة، ولا بالألوان، فإنها عرض خارج عن ماهيتها. والمعاني التي تتفاضل بها الشعوب، وتحدد هوياتها هي تلك التي اصطلح علماء الاجتماع على تسميتها ثقافة، كما قال أحد الباحثين: "الثقافة والهوية مفهومان، يحيلان إلى الواقع نفسه، منظورا إليه من زاويتين مختلفتين". والثقافة، كما عرَّفها علماء الاجتماع، هي: "ذلك المجموع المعقد الذي يتضمن المعارف، والمعتقدات، والفن، والحقوق، والأخلاق، والأعراف، وسائر القابليات والعادات التي يكتسبها الإنسان بصفته عضوا في مجتمع ما". والثقافة هي التي تجمع وتفرِّق، وتدني وتباعد، وتصنع العلاقات بين الناس والأشياء، وتوجه السلوك، وتشعر بالوحدة والتوافق والتميز، وتحمي من التفكك. واللغة من أهم عناصر الهوية، فهي أهم وسائل التواصل، وأهم وسائل نقل الثقافة وتطورها والمحافظة عليها. وتكون مع الثقافة الرئيسة ثقافات فرعية، لا تخالفها في الجوهر، تتعلق بجوانب جزئية من الحياة، كبعض الأعراف، والعادات، والطباع، واللهجات. ومن الثقافات الفرعية ما يسمى "الثقافة الشعبية"، وهي: "الثقافة العادية لأناس عاديين، أي إنها ثقافة تتشكل تبعاً للواقع اليومي، ومن خلال النشاطات العادية المتجددة كل يوم"، ومنها ثقافة الطبقات، وثقافة الجماعات ذات الاهتمام المشترك، كالعمَّال، فكثيرا ما يكون لهؤلاء خصوصيات تتعلق بعملهم وحياتهم الخاصة، لا يشاركهم فيها غيرهم، مع موافقتهم لسائر المجتمع فيما عداها.
وإذ قد عرفنا ماهية الهوية، فيمكن الآن أن نقول إن البيضان كلهم (أخضرهم وأصفرهم) متفقون في الثقافة: المعتقد (الدين)، والأخلاق، والمعارف، واللغة، والقيم (الأفكار التي تحدد ما هو مهم ومحبذ ومرغوب في المجتمع)، والعادات، والأعراف، وطرق التفكير والعيش، والذوق، والفن (الموسيقى، الرقص، الشعر). فإن فتَّشنا عن فروق ثقافية بين الفريقين، أو خصوصية ثقافية لأحدهما دون الآخر، لم نجد ما يمكن أن يبنى عليه القول بأن هويتهما ليست بواحدة. أما شعور بعضهم بالتميز، فما من شعب من شعوب الأرض قديما وحديثا إلا وفيه من هذا الشعور، وهو يبنيه على أمور شتى، كالدين، والنسب، واللون، والإقليم، والمهنة، ومنهم من يبنيه على أمور مقدسة، كما يفعل الهندوس الذين يزعمون أن منهم مَنْ خُلِق من رأس الآلهة، ومنهم من خلق من صدرها، ومنهم من خلق من أرجلها، وعلى حسب منزلة العضو الذي خلقت منه الجماعة من الجسم تكون منزلتها من المجتمع، التي لا يجوز أن ترفع فوقها، أو تنزل دونها. ونعرف ما في قبائل البيضان من تقسيمات وطبقات، وما بين أهل الأقاليم في موريتانية وغيرها من البلاد من الشعور بالتمايز والتفاضل في الدين، والعقل، والأخلاق، واللغة، وما يسبغ أهل كل إقليم على غيرهم من الصفات التي تنم على استخفاف بهم، واستصغار لهم، كما يرى في الرسالة المدعوة "الفيش بين كسكس والعيش"، وفي نوادر أهل الوجه البحري بمصر وحكاياتهم الساخرة من أهل الصعيد، الرامزة إلى تحميقهم، ونسبتهم إلى البخل. وكان مثل ذلك معروفا بين قبائل العرب، منذ الجاهلية، كما قال الجاحظ: "وشعراء مُضَرَ يحمِّقون رجال الأزد، ويستخفون أحلامهم، ... ويدخلون في هذا المعنى قبائل اليمانية". وإذا لم تجد الجماعات ما تنبز به غيرها التمست نبزه بالطعام الذي يأكل، والمهنة التي يمتهن، كما كان بعض العرب يلقب قريشا "سخينة"، وهي طعام كانت تأكله في القحط، وكما نبز بعضهم الأنصار بأنهم أهل زراعة، وهي مهنة يأنف منها الأعراب.
وكلما أوغل الشعب في البداوة والجهل اشتد حرصه على تتبع الخلاف وتصنيف الناس عليه؛ لأن العلم محدود، والعقل ليس بذاك، والفخر، والتيه، والاعتداد بالنفس والقبيلة، واحتقار الغير، ثقافة غالبة، و"أغلبية الشعوب المسماة بـ"البدائية" ترى أن البشرية تتوقف عند حدودها العرقية أو اللغوية, ولهذا فهي تطلق على نفسها صفةً عرقية ethnonyme تعني, تبعاً للحالة, "البشر", "الرائعين" أو "الحقيقيين"، وذلك مقابل الأجانب الذين لا تعترف بأنهم كائنات بشرية مستقلة". وكلما نزع الشعب إلى العلم والتحضر تخفف من هذا، وأحدث معايير، أكثر واقعية ونفعية، وإن لم يكن لزاما أن تكون أكثر أخلاقية، فيغدو العلم، والمال، والجاه، وما يكون منها بسبيل، هي المعيار في قدْر الناس، وتبنى العلاقات على أسس جديدة، غير النسب الذي هو أساس العلاقة بين الشعوب البادية.
إن الهوية هي ما شهدت به الثقافة، لا اللون، ولا الحمض النووي، ولا المنزلة الاجتماعية. وهوية البيضان كلهم واحدة، والتعلم والتحضُّر زعيمان بأن يمْحُوَا من سلبيات ثقافتنا ما محَوا من ثقافات غيرنا، وسيبقى فيها -مع ذلك- ما في أفرادنا من السلبيات، ولا تكمل الثقافة أو يكمل الإنسان، لكن الطموح، إن لم يبلِّغ الغاية، ، جدير بأن يُدْني منها.

ــــــــــــــــ
* الدكتور مختار بن الغوث  مفكر وكاتب  موريتاني مقيم بالمملكة العربية السعودية ، مهتم بقضايا الفكر الإسالامي و الثقافة الإيجابية ، صدر له العديد من الكتب وعشرات  المقالات المنشورة في المجلات الوطنية والعربية ، أستاذ مشارك بجامعة طيبة  حاليا .

شارك

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More