الأربعاء، 17 أغسطس 2016

تفكيك مفردة أختم به رسالتي إلى المعلم ابراهيم أعميرات .


أحمد ولد أرجيل
الانشاء و البداية و البناء مطلقا ـ بيتا للسكن كان أو حصنا يحمي أو طريقا يؤدي أو نفقا يذلل و يطوع جغرافيا أو جسرا يفك اختناقا مروريا أو فلح حقل زراعي يبتغى منه العيش و استرزاق المولى جل و علا أو ـ يبدأ بالحفر و التجريف و تشويه وجه كان ـ ربما ـ جميلا و ناعما و تعريضه لأخاديد و شقوق و حفريات عميقة مليئة بالطين و الأتربة و ما لا تأنس به النفس في الحالات الطبيعية غير الاستثنائية ، لكن بعد اكمال المرحلة الأولى تبدأ تلك التشوهات في الاختفاء رويدا رويد حتى تزول تماما فيأخذ المنجز شكله الجمالي و الوظيفي النهائي . و هذا التدرج في الاختفاء و كونه لم يأتي دفعة واحدة سببه أن كل مرحلة من هذه المراحل تحتاج قدرا من الجمال و الكمال قبلها تقوم عليه و قدرا من التشوه المرحلي و الخشونة ليكون عند اكتماله أساسا لما بعدها .
  كل ذلك العبث ـ شكلا ـ و الفوضى و العنف و التكسير و التشقيق و التخشين هو بداية حتمية لعمارة الأرض و إحياءها و تحقيق خلافة الانسان لله فيها ، فتبصر ـ أمتعنا الله و إياك بالبصر و البصيرة ـ كيف تحول كل ذلك الشقاء و العنف و الهمجية و التشويه إلى نعيم ولين و جمال و هدوء و سلام ، فحيت الأرض و أزَّينت و وهبت الانسان وافر المحصول ( طبعا تعبير مجازي فالله هو الواهب و المعطي ) و ارتفعت العمارات و الأبراج و تعبدت الطرق و الأنفاق و الجسور و دبت في ذلك الموات الحياة كل ذلك حدث بعد  " مبارحة البداية " موضوع التفكيك و هدفه . فلنفرض أن بناء بدأ مشروعا عمرانيا و بعد مرحلة أو مراحل من العمل توقف تحت أي سبب ( خيانة مثلا أو خلافا مع المالك أو موتا مجهزا ) فهل من الاستغلال الأمثل للوقت و الموارد و الجهد أن نتعهد ذلك البناء بالتدقيق فنحتفظ بالمفيد منه و نعالج أماكن الخلل ـ إن وجدت ـ و نكمل العمل ، أو أن نعمد إلى إزالة كل ما تم و نبدأ من جديد ؟! مؤكد أن الخيار الثاني مكلف و غير بناء . و هاك مثالا آخر على محاولة تفكيك " مبارحة البداية " يحتاج الرضيع في أيامه الأولى إلى نوع من الحليب ذي تركيبة غذائية خاصة يستمر عليه فترة يمده خلالها بأسباب النمو الذي يبدو عليه واضحا من خلال زيادة الحجم و تنامي الشعور بالمحيط و التفاعل مع المؤثرات و بعد فترة من الزمن يصبح ذات الحليب عديم الفائدة بل تنتج عنه عوارض سوء التغذية و أمراضها ما يعني وجوب تغييره بغيره ذي تركيبة مختلفة تتماشى مع عمره و حاجته الجديدة من العناصر المغذية و هكذا دواليك حتى يبلغ الفطام و يبدأ في تعاطي الطعام بذات التدرج الذي حصل مع الحليب . كذلك يكون التعامل مع أي واقع تعيس كالذي عيش في موريتانيا و عانى منه الكثيرون خصوصا من مكون الحراطين و انطلق نضالهم ضده فئويا بالدرجة الأولى . واقع يستند إلى الظلم و السطوة و فرض الذات على الآخرين و سلبهم حريتهم و ما يكسبون و يستمد استمراره و أسباب ديمومته من مجموعة من المعطيات المتجذرة في النفوس و المستحكمة في العقل الجمعي و المعقول . و يتكاتف على ترسيخها " التفسير الديني " و الأعراف و قوة النفوذ العصبوي القبلي  و احتكار الاجتهاد و التواطؤ بين القوى النافذة و المرجعيات المختلفة . ما أرمي الوصول إليه و أود إيصاله هو أن استنبات الجديد من الثقافة في البيئات البوار و التي لم تعهده من قبل يتطلب ريه بما يناسب مراحله كلها من الخطاب و طرق التعبير و أدواته .
  من المعلوم  ـ بديهيا ـ أن الخطاب هو الواجهة الأولى للنضال و المرآة العاكسة له ـ شكلا على الأقل ـ و هو الذي يقدمه للناس و هو الذي يجعلهم يتعاطون سلبا أو إيجابا معه لذلك كان تطويره لزاما حتى يواكب المستجدات و المتغيرات المحلية و الدولية لا يعني ذلك أنني أدعو إلى التخلي عن الخطاب أو الخط النضالي للحراطين إلا أن الجمود عند الشكل الفئوي لهذا الخطاب أو ذاك النضال سيكون عائقا ـ لا محالة ـ أمام وصوله إلى بقية الفئات بالشكل المطلوب و بالسرعة المرجوة و بأقل الخسائر في الوقت و الجهد . عندما نادت حركة الحر (( أخي الحرطاني )) كانت تستغل استغلالا ذكيا كذبة كبيرة  وضعتها الحكومة و أشاعتها أجواء المدينة و العيش في تجمعات يصعب امتهانها علانية تتمثل في ذلك الاسم الذي جمع السود الناطقين بالحسانية " الحراطين " بعد أن أصبحت كلمة العبيد محرجة للجميع و كذلك كذبة أن كل الناس أحرار و أنهم سواسية أمام مؤسسات الدولة  و هي حقيقة من الناحية النظرية البحتة لكن من الناحية التطبيقية كان ذلك كله هراء تكذبه الوقائع على الأرض فقد كان العبد الذي يموت يرث سيده ماله عن رضى و تسليم من ذويه إذا كانوا في البوادي و القرى الصغيرة و بالقضاء عندما تكون عوامل الرضى و التسليم و الخوف غير متوافرة و كنت شاهدا على حالة منها واحدة كان المعنيون يذهبون إلى قصر العدالة و يتنازعون و يتقاضون حتى صدر الحكم القضائي النهائي ببعض التعويضات لذوي الميت و بالورث للأسياد ( و الله على ما أقول شهيد ) و كان الخطاب وقتئذ يناسب أن تكون من بين مفرداته (( لا لحرمان أهل الميت الحرطاني من كده و تعبه و توريثها سيدا لازمه الكسل و الاتكال ليحصد في النهاية شقاء الناس و مدخراتهم )) كما يمكن ابتلاع عبارة أخرى (( لا لتملك البيظان للحراطين و استعبادهم وووو )) بالرغم من وجود ملاك آخرين للعبيد غيرهم إلا أن حيازتهم للأغلبية الساحقة من ذلك الملك تجيز تخصيصهم بالخطاب أما الآن فلا أعتقد أن تيك العبارات و المفردات مازالت واردة الحضور في الخطاب النضالي . لكن لا شك أن ثمة عبارات أخرى مازالت واردة و يجب أن تكون حاضرة بقوة في هذا الخطاب ـ من قبيل المطالبة بالمساوات في فرص العمل و التوظيف و تمويل المشاريع الفردية المدرة للدخل و أمام العدالة و في تلقي نفس المستوى من الخدمات ـ فلاحظ أن التخصيص في رفض الارث كان محل مباركة لأنه كان يخص فئة لا تشاركها فيه الفئات الأخرى لذلك وجبت تسمية الأشياء بمسمياتها . أما ما يخص العبارات الأخرى التي قلت إنها مازالت مركزية في هذا النضال أو يجب أن تبقى مركزية في الخطاب النضالي فإن ورودها يجب أن يتجاوز الفئة و التخصيص فكم في أحياء الصفيح من " كوكتيل الفئات " يجمع بينها قصر ذات اليد و وطأة الفقر و ألم الحاجة وقطعا من ظلم منها لا يجد من العدل إلا ما أنتزعه له الحي القيوم و من ذهب إلى المستشفى  لن يجد من العناية إلا الاهمال و الاعراض و قل مثل ذلك في ما لو حاول الحصول على قرض أو تقدم لشغل وظيفة ما لم تكن تأنها نفوس الطبقة الغنية من كافة الفئات و أعتقد أنه من الصعوبة بمكان أن نستطيع حشر الحكومات في زاوية التغيير الضيقة و إجبارها على تغيير السلوك في تعاطيها مع القضايا الوطنية ما دام هناك خطاب يمكن تصنيفه على أنه خطاب فئوي حشدوي و ستظل هذه الحكومات تستغله لتغطية فشلها في القيام بمهامها و مسؤولياتها بتسويفها لكل ذلك لمصلحة الدفاع عن السلم الاهلي و منع الفتنة و هلم جرا و لا تسأل عما يقود إليه ذلك من اختطاف البلد من الحال العادية إلى استمرا حالة الطوارئ التي هي أساس الظلم و تغول السلطة التنفيذية على السلطتين القضائية و التشريعية و باقي مفاصل الأمل في التغيير و ما عليه الرهان في اقامة دولة المؤسسات دولة العدالة و القيم الانسانية النبيلة . هذه الاستقالة من المسؤولية المتمثلة في سيطرة الفساد و المحسوبية و النهب و اهمال البنى التحتية التي هي عماد كل نهضة تنموية و اساسها ، و مطاردة أشباح الفتنة و مهددات الوحدة و حماية الكيان من دعاة الانفصال كل ذلك مكر مكره المحافظون ليظلوا جاثمين على صدر المدينة الثكلى و سيجد من يستمع اليه و يحتضنه مادام يسمع صوتا آخر يمجد الفئة و الشريحة أفما حان وقت التقويم الشامل و التقييم ؟
مــــــــــــــــــــــــــــــــــلاحظة :
جمود الخطاب عند البدايات يمثل حالة عجز و انعدام رؤية قابلة للجمع ـ أو على الأقل يوحي بذلك ـ و يوازيه خطورة دفع صاحب النضال و حشره في زاوية المتهم الذي لا هم له إلا تبرئة نفسه و إن أفلح (( بعد هياط و مياط و شفاعة من قريش ود لو أنها حصلت من زمن " منقول بتصرف " )) يقال له خلاص فهمناك أنت رمز أنت وطني أنت لا تشكل خطرا ! فيركن إلى الدعة و الهدوء و تبقى القضية .       

0 التعليقات:

إرسال تعليق

شارك

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More