الجمعة، 5 ديسمبر 2014

عدالة في الشكل و جور في المضمون!


تدلل الأحكام الصادرة على حسني مبارك و نجليه و بعض معاونيه على ما أصاب الثورة المصرية من ضعف و هزال في مشاهدها النهائية و ركونها المتهافت و قبولها اللا مشروط للنهاية التي حددها النظام ، ذلك أن  العمل الثوري ليس حركة إصلاحية تهدف إلى ترميم المؤسسات و تجميلها ، بل هو إزالة كاملة لأدق تفاصيلها و  الصيرورة إلى تشييدها و بنائها فيما بعد ، و يجب أن يظل مستمرا في عنفوانه فترة زمنية كافية حتى يستأصل جذور النظام الذي قام عليه و يفكك بنيته و هياكله التنظيمية و يعيد يركيبها و صياغتها وفق رؤية جديدة و عقيدة جديدة لا تسمح لها بإعادة إنتاج نفسها ودون أن يحرم البلد من خبرتها و تجربتها أو أن يهضمها حقوقها كأفراد . عندما ما قرأت كتابا عن الثورة الفرنسية للمرة الأولى تألمت كثيرا لرؤية رجالها  الوطنيين و هم يساقون إلى المقاصل لحز رؤوسهم الواحد تلو الآخر ببنادق و حراب أصدقائهم بالأمس ، و أمتلئت حنقا على " ما را " و " روبسبير " و غيرهما من رجال لجنة الأمن العام في حقبة ما يعرف بالإرهاب ، إلا أن أحداث التاريخ يبرر بعضها بعضا و يفسره بالقياس و حساب النتائج ربحا و خسارة ، خصوصا إذا كان الحدث المبرَّرُ في صورته و مغزاه يتقدم أشواطا زمنية على عقول معاصريه إن من جهة بعد و عمق النظرة التي وضتعه، أو لجهة ما ترتب عليه لاحقا من نتائج و مآلات ، و إن لم تكن مستحضرة في مخيال صانعيه . لا أبتغي هنا تبرئة فترة الإرهاب من دماء الأبرياء ، و لا الترويج للإقصاء و لا نفي العار الذي يجلل كل أولئك الرجال على ما اقترفوه في حق الشعب الفرنسي ، إلا أنني مع ذلك لا أستطيع تجاهل الجانب الايجابي لها ( حقبة الارهاب ) و النتائج الجيدة التي تحصلت عليها فرنسا من تلك السياسة رغم قسوتها و كثرت ضحاياها خصوصا أن يد العدالة طاولت المجرمين و محاسبتهم . فقد تمكنت لجنة الأمن العام من ضبط الانفلات الداخلي و دفع الغزو الخارجي بل الانتصار عليه  في وقت قياسي و هو أمر لم يكن ممكنا إنجازه  لو كان الجميع يتحرك وفق الحرية التي خرج من اجلها و نالها و لم يعرف ماذا يصنع بها ، فتخيل أن هذا يتظاهر و يقطع الطريق و يعتصم ، و ذاك يهاجم المرافق العمومية و يدمر و يكسر للضغط من اجل تلبية المطالب و هلم جرا ـ و كلها امور تحدث باسم الحرية و الحق في التعبير و الضغط من اجل إسماع الصوت و إجبار الطرف الآخر على الاستماع إليه ـ ، ، و الاعداء على الابواب ، فماذا يفعل الجيش المشكل حديثا قليل المؤن و العتاد هل يتفرغ لفض المظاهرات و حماية المصالح او يذهب إلى الجبهة للقيام بالواجب ؟. في مقابل ذلك الحزم كان الثوار المصريون ـ إن جازت التسمية ـ اكثر إنخداعا بقوتهم و توهموا أن بإمكانهم الحشد متى شاؤوا و الاطاحة بمن لا يرضون و فاتهم أن الثورة ليست من الجبلة و أن الفطرة السليمة لا تستهونها و لا تنزع إليها لما فيها من التضحية بالنفس و إتلافها إلا كملاذ أخير فهي علاج لمرض و ليست ترفا أو نزهة تهفو إليها النفوس و تستمرؤها الاذواق  و لها شرط نادر الحدوث وهو إشتراك الجميع ـ أو الاغلبية الساحقة ـ في السخط و المظلمة و الشعور بضرورة التغيير فإن لم يتحقق لها ذلك كانت حربا أهلية أو فوضى عارمة لا تبقي و لا تذر .و أود القول كذلك أنه ثمة حاجة ملحة ـ لتثبيت أي ثورة ـ إلى إرادة حقيقية و عزم لا يلين ، و قبضة قوية ضاغطة ـ لا مانع أن تكون حديدية لبعض الوقت ـ حتى تستقر الثورة و يشتد عودها و تترسخ في النفوس ثقافتها فتتحصن بذلك من الثورات المضادة و تنعدم فرص العودة إلى الماضي .
     لا يجوز ـ عقلا ـ أن نجرم أي قاض يحكم ببراءة متهم ـ مهما كانت منزلته في النفوس متدنية ـ ما لم تكن الأدلة المقدمة ضده كافية لأدانته ذلك أن القضاء أداة للفصل في المنازعات و البت في الدعاوى و بالتالي إصدار الأحكام استنادا إلى البينات و الأدلة المادية الملموسة و وفقا للقانون، و ليس متنفسا تنفث من خلاله الاحتقانات و تجارى به العواطف أو تسترضى الانفعالات ، و عليه فالملام في الحالة المصرية هو الطيف الثوري الذي لم يكن يمتلك النفس الكافي الذي يمكنه من السباحة في اللجة حتى بلوغ الشاطئ الحقيقي ، و ألقى مرساته ـ من التعب أو الخوف من القادم أو هما معا ـ عند أول ربوة لا حت له في الأعماق خصوصا أن الثورة أبرزت الأحجام الحقيقية على الأرض و أعطت مؤشرا لا تخطئه العين لما سيكون عليه المشهد تاليا ، فرغم أنها لم تعطي أحدا فرصة الاستئثار بالمشهد أو إدعاء الهيمنة عليه ، إلا أنها أبرزت كتلا و أوزانا من طيف معين لم يكن البعض منها في الحسبان. و حجبت بغبارها وُجُوهًا كانت إلى عهد قريب رمزا للنضال ضد الاستبداد و الظلم ، و من أسباب ذلك الاستعجال أيضا ـ إضافة الى اما ذكرت ـ انصراف الاهتمام عن إستكمال الثورة إلى شحذ السكاكين و الاستعداد للفوز بالنصيب الأوفر من جمل بدا للعيان مناخه و منحره . و كانت الحرائق في ذلك الوقت تلتهم الأقسام الشرطية و المديريات الأمنية بما تحويه من أدلة و أوامر مكتوبة أو مسجلة ، زد على ذلك ما كان يتمتع به المسئولون من العلو و الفوقية على النظام  و القانون و مقدرتهم على إصدار الأوامر شفهيا مهما بلغت خطورتها بما لا يخلف دليلا أو  تتمخض عنه تبعة تمهد للمساءلة لاحقا ، و قد يقول قائل بوقوع ذلك عرضيا بالنظر إلى الانهيار الكامل لجهاز الشرطة وقتئذ ‘ إلا أن ذلك الاحتمال غير وارد باعتبار التماسك الممتاز و المحمود الذي ظهرت به المؤسسة العسكرية في تلك الظروف ، الأمر الذي يطرح التساؤل مشروعا عن الأسباب التي جعلتها تحجم عن التدخل و التحرك لوضع حد لتلك الحرائق و الأعمال الإجرامية التي تستهدف محاضر الشرطة و مدوناتها و أدلة إثباتها للوقائع قبل أن تستهدف مقارها ورجالها كل ذلك حدث في خضم ثورة عارمة اجمع الكل عليها بلا استثناء رافعا مطلب التغيير ، و لإن وجد في ذلك المناخ من لا يوافق ذلك التوجه فلن يجرؤ على المعارضة و هو ما يدفع شبهة الخوف من سوء تفسير تحرك من ذلك القبيل أو ردة فعل عليه . حدث ذلك و الثوار يشربون مع الجيش نخب الحرية و الشعب و يتغنون ب ( الجيش و الشعب إيد وحدة ) و الجيش هو ذاته الذي تدخل بكل عنف و دموية لإسقاط مرسي و فض إعتصامات الرافضين لذلك بلا رحمة و لا شفقة رغم شدة الانقسام و الاصطفاف وقتئذ   !.ألم يكن بمقدور الجيش أن يتحرك بذات الحزم و السرعة بهدف حماية ارواح المائتين و "واحد " ـ للأمانة ! ـ  الذين برأت المحكمة المتهمين من دمائهم في تمهيد واضح و فاضح لاستجلاب كبش فداء تتحدد هيويته شيئا فشيئا ، و تأمين حقوق الأفراد في  ضمان العدالة في ماجرى ، و الحفاظ على المرافق العامة و المصالح الحيوية للدولة ؟ سؤال للجيش المصري الذي كلفه مبارك بتولي الأمر لحظة تخليه عن منصبه ، و للقضاء الشامخ ! ذي العيون المغمضة عن حرق الأدلة و إتلافها .
  كانت فرنسا بداية الثورة مرمى و هدف لأحقاد و بنادق ممالك أوربا التي رأت فيها تهديدا حقيقيا لعروشها خصوصا أن الثورة أعلنت وثيقة حقوق الإنسان التي تساوي السوقة بالأشراف و التزمت بنشرها في العالم بقوة السلاح ، و كانت فرنسا حينئذ منهارة إقتصاديا و ينخرها التناقض و تموج ساحاتها بالأضداد ، فهناك اليساريون الذين يريدون قلبها جمهورية و القطيعة مع الملكية و اجتثاثها ، و هناك من يرغب في الإبقاء عليها ملكية دستورية يمتلك الشعب أمره و يحتفظ الملك ببعض الصلاحيات ، و هناك أيضا أنصار الملك و الملكية الذين يريدون العودة بالأمور إلى ما كانت عليه قبل الثورة ، ولكم أن تتخيلوا ما الذي يمكن أن تحدثه هذه الفسيفساء بأمة امتلكت توا حريتها و لا تحوز أي تجربة في ممارستها أو ثقافة متأصلة تحدد ماهيتها و ما يجوز و ما لا يجوز فعله بها .                                                                                                                  

(( قرر الرئيس محمد حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية  .... )) بهذه العبارة الباهتة أطفأ عمر سليمان وهج الثورة و حرفها عن مسارها تماما ، فقد اعتبر الثوار أن عصر الثورة قد انتهى و حل محله عصر بناء الدولة ، هكذا فجأة ! و أصمتهم آذانهم صيحات الفرح بالانتصار على شخص مبارك و كسر إرادته عن سماع باقي كلمة نائب الرئيس آن ذاك و فهمها و تحليلها (( و تكليفه المجلس الاعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد )) لم يكن من المفيد أو من المعقول أن تتولى مؤسسة أي مؤسسة كانت قائمة في العهد القديم المسئولية إلا تحت الاشراف الكامل و المباشر و الهيمنة التامة لمجلس يشكله الثوار الذين  سالت دماؤهم و فاضت في سبيل التغيير ارواحهم و صودرت حرياتهم طيلة ثمانية عشر يوما هي عمر الثورة ، فلا يحتاج المرؤ إلى عقل خارق ليستنتج ان من تم خلعه بطلت قراراته فكيف يُقْبَلُ تفويضه سلطة  تم تجريده منها بقرار من عموم الشعب أو أغلبيته الساحقة على الاقل إلى من لا يستحقها و لم يدفع فيها ثمنا و بقي موقفه متذبذبا بين الفرجة السلبية و الضغط الخفي على الثوار !، فمن شروط صحة الهبة ثبوت الْمُلْكِ و الحيازة .و ثمة قياس آخر يساعد على توضيح الخلل في الثورة المصرية ذلك أن اللجنة المكلفة بإعداد الدستور الفرنسي ظلت عاكفة عليه في خضم الاحداث  برا بقسمها الذي قطعته على نفسها بألا تنفض مهما واجهت من صعاب حتى تنجزه و منحتها الظروف منقبة ساعدت في جنوح عملها إلى مصالح الامة و ملامسة همومها ، و هذه المنقبة ـ إن جازت التسمية ـ هي أن واضعيه على قدم المساوات ثوار ينشدون الحرية و الامن و الحقوق في العيش الكريم و ليس من بينهم من يستطيع أن يفرض آراءه و أفكاره على البقية و إنما كان الجميع ضعيفا و خائفا و مقتنعا أن القوة و الامن لن يحصل عليها إلا في نظام عادل يخدم الجميع و يُخْضِعُ الجميع ، و لذلك جاء الدستور وفق رؤية الثوار  و منسجما مع إعلانهم لحقوق الانسان ، و على العكس من ذلك جاء الدستور المصري حسب رؤية الجيش الذي يمثل في الركن القوي للنظام و العكاز الذي يتكئ عليه مبارك ، و يثبت ذلك عبارة الشكر الخاطفة التي وردت على لسان الناطق باسم المجلس الاعلى للقوات المسلحة في بيان تسلم الحكم ، و لم يزد على بعض التعديلات البسيطة التي كانت المعارضات لمبارك تطالب بها على مدى سنوات ، و لم يأخذ في الحسبان ما أستجد على الارض و هو أمر ما كان ليحدث لولى خوف بعض السياسيين ممالاح لهم فجر الثورة من حتمية الجلوس على دكة الاحتياط و على هامش السياسة  و الاضواء بعد أن كانوا يتأملون أن موقعهم منهما المتن و الصدارة ، وهم الذين كانوا يشكلون الفريق الاول و اللاعبين الأساسيين  فقرروا التخلي  عن مواقعهم التاريخية ليضمنوا الحد الادنى من المشاركة ، فقدموا الغطاء المدني لتحركات العسكريين فكان ما كان .  

0 التعليقات:

إرسال تعليق

شارك

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More