الجمعة، 5 ديسمبر 2014

عدالة في الشكل و جور في المضمون!


تدلل الأحكام الصادرة على حسني مبارك و نجليه و بعض معاونيه على ما أصاب الثورة المصرية من ضعف و هزال في مشاهدها النهائية و ركونها المتهافت و قبولها اللا مشروط للنهاية التي حددها النظام ، ذلك أن  العمل الثوري ليس حركة إصلاحية تهدف إلى ترميم المؤسسات و تجميلها ، بل هو إزالة كاملة لأدق تفاصيلها و  الصيرورة إلى تشييدها و بنائها فيما بعد ، و يجب أن يظل مستمرا في عنفوانه فترة زمنية كافية حتى يستأصل جذور النظام الذي قام عليه و يفكك بنيته و هياكله التنظيمية و يعيد يركيبها و صياغتها وفق رؤية جديدة و عقيدة جديدة لا تسمح لها بإعادة إنتاج نفسها ودون أن يحرم البلد من خبرتها و تجربتها أو أن يهضمها حقوقها كأفراد . عندما ما قرأت كتابا عن الثورة الفرنسية للمرة الأولى تألمت كثيرا لرؤية رجالها  الوطنيين و هم يساقون إلى المقاصل لحز رؤوسهم الواحد تلو الآخر ببنادق و حراب أصدقائهم بالأمس ، و أمتلئت حنقا على " ما را " و " روبسبير " و غيرهما من رجال لجنة الأمن العام في حقبة ما يعرف بالإرهاب ، إلا أن أحداث التاريخ يبرر بعضها بعضا و يفسره بالقياس و حساب النتائج ربحا و خسارة ، خصوصا إذا كان الحدث المبرَّرُ في صورته و مغزاه يتقدم أشواطا زمنية على عقول معاصريه إن من جهة بعد و عمق النظرة التي وضتعه، أو لجهة ما ترتب عليه لاحقا من نتائج و مآلات ، و إن لم تكن مستحضرة في مخيال صانعيه . لا أبتغي هنا تبرئة فترة الإرهاب من دماء الأبرياء ، و لا الترويج للإقصاء و لا نفي العار الذي يجلل كل أولئك الرجال على ما اقترفوه في حق الشعب الفرنسي ، إلا أنني مع ذلك لا أستطيع تجاهل الجانب الايجابي لها ( حقبة الارهاب ) و النتائج الجيدة التي تحصلت عليها فرنسا من تلك السياسة رغم قسوتها و كثرت ضحاياها خصوصا أن يد العدالة طاولت المجرمين و محاسبتهم . فقد تمكنت لجنة الأمن العام من ضبط الانفلات الداخلي و دفع الغزو الخارجي بل الانتصار عليه  في وقت قياسي و هو أمر لم يكن ممكنا إنجازه  لو كان الجميع يتحرك وفق الحرية التي خرج من اجلها و نالها و لم يعرف ماذا يصنع بها ، فتخيل أن هذا يتظاهر و يقطع الطريق و يعتصم ، و ذاك يهاجم المرافق العمومية و يدمر و يكسر للضغط من اجل تلبية المطالب و هلم جرا ـ و كلها امور تحدث باسم الحرية و الحق في التعبير و الضغط من اجل إسماع الصوت و إجبار الطرف الآخر على الاستماع إليه ـ ، ، و الاعداء على الابواب ، فماذا يفعل الجيش المشكل حديثا قليل المؤن و العتاد هل يتفرغ لفض المظاهرات و حماية المصالح او يذهب إلى الجبهة للقيام بالواجب ؟. في مقابل ذلك الحزم كان الثوار المصريون ـ إن جازت التسمية ـ اكثر إنخداعا بقوتهم و توهموا أن بإمكانهم الحشد متى شاؤوا و الاطاحة بمن لا يرضون و فاتهم أن الثورة ليست من الجبلة و أن الفطرة السليمة لا تستهونها و لا تنزع إليها لما فيها من التضحية بالنفس و إتلافها إلا كملاذ أخير فهي علاج لمرض و ليست ترفا أو نزهة تهفو إليها النفوس و تستمرؤها الاذواق  و لها شرط نادر الحدوث وهو إشتراك الجميع ـ أو الاغلبية الساحقة ـ في السخط و المظلمة و الشعور بضرورة التغيير فإن لم يتحقق لها ذلك كانت حربا أهلية أو فوضى عارمة لا تبقي و لا تذر .و أود القول كذلك أنه ثمة حاجة ملحة ـ لتثبيت أي ثورة ـ إلى إرادة حقيقية و عزم لا يلين ، و قبضة قوية ضاغطة ـ لا مانع أن تكون حديدية لبعض الوقت ـ حتى تستقر الثورة و يشتد عودها و تترسخ في النفوس ثقافتها فتتحصن بذلك من الثورات المضادة و تنعدم فرص العودة إلى الماضي .
     لا يجوز ـ عقلا ـ أن نجرم أي قاض يحكم ببراءة متهم ـ مهما كانت منزلته في النفوس متدنية ـ ما لم تكن الأدلة المقدمة ضده كافية لأدانته ذلك أن القضاء أداة للفصل في المنازعات و البت في الدعاوى و بالتالي إصدار الأحكام استنادا إلى البينات و الأدلة المادية الملموسة و وفقا للقانون، و ليس متنفسا تنفث من خلاله الاحتقانات و تجارى به العواطف أو تسترضى الانفعالات ، و عليه فالملام في الحالة المصرية هو الطيف الثوري الذي لم يكن يمتلك النفس الكافي الذي يمكنه من السباحة في اللجة حتى بلوغ الشاطئ الحقيقي ، و ألقى مرساته ـ من التعب أو الخوف من القادم أو هما معا ـ عند أول ربوة لا حت له في الأعماق خصوصا أن الثورة أبرزت الأحجام الحقيقية على الأرض و أعطت مؤشرا لا تخطئه العين لما سيكون عليه المشهد تاليا ، فرغم أنها لم تعطي أحدا فرصة الاستئثار بالمشهد أو إدعاء الهيمنة عليه ، إلا أنها أبرزت كتلا و أوزانا من طيف معين لم يكن البعض منها في الحسبان. و حجبت بغبارها وُجُوهًا كانت إلى عهد قريب رمزا للنضال ضد الاستبداد و الظلم ، و من أسباب ذلك الاستعجال أيضا ـ إضافة الى اما ذكرت ـ انصراف الاهتمام عن إستكمال الثورة إلى شحذ السكاكين و الاستعداد للفوز بالنصيب الأوفر من جمل بدا للعيان مناخه و منحره . و كانت الحرائق في ذلك الوقت تلتهم الأقسام الشرطية و المديريات الأمنية بما تحويه من أدلة و أوامر مكتوبة أو مسجلة ، زد على ذلك ما كان يتمتع به المسئولون من العلو و الفوقية على النظام  و القانون و مقدرتهم على إصدار الأوامر شفهيا مهما بلغت خطورتها بما لا يخلف دليلا أو  تتمخض عنه تبعة تمهد للمساءلة لاحقا ، و قد يقول قائل بوقوع ذلك عرضيا بالنظر إلى الانهيار الكامل لجهاز الشرطة وقتئذ ‘ إلا أن ذلك الاحتمال غير وارد باعتبار التماسك الممتاز و المحمود الذي ظهرت به المؤسسة العسكرية في تلك الظروف ، الأمر الذي يطرح التساؤل مشروعا عن الأسباب التي جعلتها تحجم عن التدخل و التحرك لوضع حد لتلك الحرائق و الأعمال الإجرامية التي تستهدف محاضر الشرطة و مدوناتها و أدلة إثباتها للوقائع قبل أن تستهدف مقارها ورجالها كل ذلك حدث في خضم ثورة عارمة اجمع الكل عليها بلا استثناء رافعا مطلب التغيير ، و لإن وجد في ذلك المناخ من لا يوافق ذلك التوجه فلن يجرؤ على المعارضة و هو ما يدفع شبهة الخوف من سوء تفسير تحرك من ذلك القبيل أو ردة فعل عليه . حدث ذلك و الثوار يشربون مع الجيش نخب الحرية و الشعب و يتغنون ب ( الجيش و الشعب إيد وحدة ) و الجيش هو ذاته الذي تدخل بكل عنف و دموية لإسقاط مرسي و فض إعتصامات الرافضين لذلك بلا رحمة و لا شفقة رغم شدة الانقسام و الاصطفاف وقتئذ   !.ألم يكن بمقدور الجيش أن يتحرك بذات الحزم و السرعة بهدف حماية ارواح المائتين و "واحد " ـ للأمانة ! ـ  الذين برأت المحكمة المتهمين من دمائهم في تمهيد واضح و فاضح لاستجلاب كبش فداء تتحدد هيويته شيئا فشيئا ، و تأمين حقوق الأفراد في  ضمان العدالة في ماجرى ، و الحفاظ على المرافق العامة و المصالح الحيوية للدولة ؟ سؤال للجيش المصري الذي كلفه مبارك بتولي الأمر لحظة تخليه عن منصبه ، و للقضاء الشامخ ! ذي العيون المغمضة عن حرق الأدلة و إتلافها .
  كانت فرنسا بداية الثورة مرمى و هدف لأحقاد و بنادق ممالك أوربا التي رأت فيها تهديدا حقيقيا لعروشها خصوصا أن الثورة أعلنت وثيقة حقوق الإنسان التي تساوي السوقة بالأشراف و التزمت بنشرها في العالم بقوة السلاح ، و كانت فرنسا حينئذ منهارة إقتصاديا و ينخرها التناقض و تموج ساحاتها بالأضداد ، فهناك اليساريون الذين يريدون قلبها جمهورية و القطيعة مع الملكية و اجتثاثها ، و هناك من يرغب في الإبقاء عليها ملكية دستورية يمتلك الشعب أمره و يحتفظ الملك ببعض الصلاحيات ، و هناك أيضا أنصار الملك و الملكية الذين يريدون العودة بالأمور إلى ما كانت عليه قبل الثورة ، ولكم أن تتخيلوا ما الذي يمكن أن تحدثه هذه الفسيفساء بأمة امتلكت توا حريتها و لا تحوز أي تجربة في ممارستها أو ثقافة متأصلة تحدد ماهيتها و ما يجوز و ما لا يجوز فعله بها .                                                                                                                  

(( قرر الرئيس محمد حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية  .... )) بهذه العبارة الباهتة أطفأ عمر سليمان وهج الثورة و حرفها عن مسارها تماما ، فقد اعتبر الثوار أن عصر الثورة قد انتهى و حل محله عصر بناء الدولة ، هكذا فجأة ! و أصمتهم آذانهم صيحات الفرح بالانتصار على شخص مبارك و كسر إرادته عن سماع باقي كلمة نائب الرئيس آن ذاك و فهمها و تحليلها (( و تكليفه المجلس الاعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد )) لم يكن من المفيد أو من المعقول أن تتولى مؤسسة أي مؤسسة كانت قائمة في العهد القديم المسئولية إلا تحت الاشراف الكامل و المباشر و الهيمنة التامة لمجلس يشكله الثوار الذين  سالت دماؤهم و فاضت في سبيل التغيير ارواحهم و صودرت حرياتهم طيلة ثمانية عشر يوما هي عمر الثورة ، فلا يحتاج المرؤ إلى عقل خارق ليستنتج ان من تم خلعه بطلت قراراته فكيف يُقْبَلُ تفويضه سلطة  تم تجريده منها بقرار من عموم الشعب أو أغلبيته الساحقة على الاقل إلى من لا يستحقها و لم يدفع فيها ثمنا و بقي موقفه متذبذبا بين الفرجة السلبية و الضغط الخفي على الثوار !، فمن شروط صحة الهبة ثبوت الْمُلْكِ و الحيازة .و ثمة قياس آخر يساعد على توضيح الخلل في الثورة المصرية ذلك أن اللجنة المكلفة بإعداد الدستور الفرنسي ظلت عاكفة عليه في خضم الاحداث  برا بقسمها الذي قطعته على نفسها بألا تنفض مهما واجهت من صعاب حتى تنجزه و منحتها الظروف منقبة ساعدت في جنوح عملها إلى مصالح الامة و ملامسة همومها ، و هذه المنقبة ـ إن جازت التسمية ـ هي أن واضعيه على قدم المساوات ثوار ينشدون الحرية و الامن و الحقوق في العيش الكريم و ليس من بينهم من يستطيع أن يفرض آراءه و أفكاره على البقية و إنما كان الجميع ضعيفا و خائفا و مقتنعا أن القوة و الامن لن يحصل عليها إلا في نظام عادل يخدم الجميع و يُخْضِعُ الجميع ، و لذلك جاء الدستور وفق رؤية الثوار  و منسجما مع إعلانهم لحقوق الانسان ، و على العكس من ذلك جاء الدستور المصري حسب رؤية الجيش الذي يمثل في الركن القوي للنظام و العكاز الذي يتكئ عليه مبارك ، و يثبت ذلك عبارة الشكر الخاطفة التي وردت على لسان الناطق باسم المجلس الاعلى للقوات المسلحة في بيان تسلم الحكم ، و لم يزد على بعض التعديلات البسيطة التي كانت المعارضات لمبارك تطالب بها على مدى سنوات ، و لم يأخذ في الحسبان ما أستجد على الارض و هو أمر ما كان ليحدث لولى خوف بعض السياسيين ممالاح لهم فجر الثورة من حتمية الجلوس على دكة الاحتياط و على هامش السياسة  و الاضواء بعد أن كانوا يتأملون أن موقعهم منهما المتن و الصدارة ، وهم الذين كانوا يشكلون الفريق الاول و اللاعبين الأساسيين  فقرروا التخلي  عن مواقعهم التاريخية ليضمنوا الحد الادنى من المشاركة ، فقدموا الغطاء المدني لتحركات العسكريين فكان ما كان .  

الاثنين، 26 مايو 2014

البكاء على الاطلال

دموع الأفئدة للحبيبة (شكار )
أحمد الرجيل

يَــلاَّلَـــكْ يـَــانَ كـُــونُ أتَــــــوْفْ @@ مَـتْمَـكَّـنْ مَـنَّـكْ عَــادْ الْخَـــــــــوْفْ #


وَ الْـــوَجْدَ ألِّ مَـاهُــو مَـوْصُــوفْ @@ مَــنْ قَـلَّـتْ ـ وَ أسْـقَامَـكْ تَـنْــزَادْ ـ #


شَـوْفَـتَ شَكَـارْ أقَـلَّـتْ شَــــــــوْفْ @@ إنْـيَّـرْكَـلْ وَ الْـمَـقْــــرَنْ وَ الْــــــوَادْ # 









غريب المرافئ

بكاء يحرق المآقي و رثاء يقطع نياط الفلب فرحمة الله على خالد السعدي و أقال الله عثرة العراق
الشاعر العراقي خالد السعدي رحمه الله


غَرِيْبُ المَرَافِئِ
شعر:خالد عبد الرضا السعدي
كمِ انْتَظَرْتُ لُهَاثَ الضَّوءِ مُرتَجِفَا
وَكانَ فَجْريْ قَدِيْماً شاحباً أسِفَا
كمِ انْتَظَرتُ وَسَالَتْ كُلُّ أورِدَتِي
حِبْراً علَى دَربِيَ المجْنُونِ قَد نَزَفَا
علَى خُطَايَ الَّتي لَمْ تَتَّخِذْ وَطَناً
سِوَى رَحيْلٍ إلَيْهِ عُمْريَ انْجَرَفَا
أمْشِي.. وَنَزْفُ دُرُوبِي بَلَّ أمْتِعَتِي
لِلآنَ نَزْفِيَ فَوقَ النَّخْلِ.. مَا نَشَفا
وَإنَّ نَخْلِي عِراقٌ.. وَالسَّما رِئَةٌ
مَخْنُوقَةُ الغَيثِ.. قَصّتْ شَعرَها السَّعفَا
أنَا غَرِيبُ المرافي.. مَنْ يُعَلِّلُني؟
شَواطئُ الأهْلِ تَاهَتْ لَوعَةً وَجَفَا
أنَا شِراعُ الرَّزايا.. ألفُ عَاصِفَةٍ
حَطَّمتُها فـيَّ إذْ غادَرْتُها أنِفَا
أُضِيءُ نَجمَةَ شِعرٍ دفْقُ أحرُفِها
قَصيْدةٌ تَحْضِنُ الآفَاقَ وَالصُّحُفَـا
بَذَرْتُ رُوحِي يَمامَاً في تَلَهُّفها
فَأدمُعي شَجَرٌ في ظلِّها وَرِفَا
لِتَسْتَدِيرَ الَّليَالِي في يَدِي امْرأةً
تُفَّاحُها مِنْ جِنَانِ الرِّقَّةِ اقْتُطِفَا
تِلْكَ الـمُعَـدَّةُ مِنْ يَاقُوتِ أسْئِلَتي
صَارَتْ تُضيفُ لِلَيلِ القَلْبِ مُنعَطَفَا
لا غُصْنَ لِي بَعدَ هذا الجَمْرِ يُرجِعُ لي
بَعْضاً مِنَ الماءِ.. أو كُلِّي الَّذي تَلَفَا
لا حضْنَ لِي الآنَ يَا مَولايَ يَا وَطَني
يُرِيْقُ دِفءَ الأمانِي فَرْحَةً وَصَفَا
سَهرْتُ شَمعاً لَعلِّي أقْتَفِي ألَقَاً
يُعيدُ لِلشَّمسِ أُفْقاً مِنْ فَمي انْكَشَفا
وَهَا تَيَّبَسَ زَرْعُ الرُّوحِ مِنْ سَهَرِي
وَمَرَّ غَيْمِي سَراباً بِالثَّرى الْتَحَفَا
تَغَيَّرَ الأهْلُ.. مَا عَادَتْ دِلالُهُمو
تَزكُو، وَلا نَايُهُمْ بِالطِّيبِ قَدْ عَزَفَا!
تَغَيَّرَ النَّايُ، لَمْ تَطْرَبْ بِضِحكتِهِ
“لَيلَى” وَلا “قَيسُها” بِالأغْنِيَاتِ وَفَا!
وَقَدْ تَغيَّرتُ – طَبْعاً – صِرْتُ مُلْتَصِقاً
بِظِلِّ جُرْحيَ مَعجُونَاً وَمؤتَلِفا
إنَّا اخْتَلَفْنَا.. علَى أفراحِنَا صُوَراً
أمَّا العِراقُ فَفِي الأحْزانِ مَا اخْتَلَفَا
نِصْفِي عِراقٌ، وَنِصْفِي آخرٌ وَطَنٌ
هُوَ العِراقُ.. ولكِنْ منْ دَمِي خُطِفَا
يَا سُرْفَةَ الريحِ دُوْسِي فَوقَ أضلُعِنَا
حتَّى نُعَلِّمَ مَعنَى حُبِّنا السُّرَفَا
وَكَيْفَ يَهزِمُ عُصفورٌ بِريْشَتِهِ
وَحْشاً علَى عُشِّهِ المفْجُوعِ قَد وَقَفَا؟
وَكَيفَ نَحيَا عُراةً مِنْ مَواجِعِنَا
وَنملأ الأرضَ ضَوءً بِالمدَى عَصَفَا؟
وَكَيْفَ.. يَا حُبُّ مُذْ جافَيْتَنَا وَطَناً
مَا كَانَ لِلنَّاسِ إلا عاشِقاً دَنِفَا؟
نُغازِلُ الفَجْرَ في أحضانِ شَيبتِهِ
لِيَسْتَفِيقَ علَى ألْحَانِنا تَرِفَا
وَكَيْفَ نَصْبِرُ صَبراً لا انْتِهَاءَ لَهُ
يَنْمُو بِنَا عَتَبَاً نَبكِي لَهُ.. وَكَفَى؟
هذِي حِكايَتُنا لَيْلٌ بِلا لُغَةٍ
وَ”شهرزادُ” بهِ مَقْتُولَةٌ شَغَفَا
وَ”شَهْرَيارُ” شَرِيدٌ.. مَنْ سَيَحضُنُهُ؟
وَقَصْرُهُ الفَخمُ لَمَّّا عافَهَا انْخَسَفَا
وَلَيلَةٍ بَعدَ ألْفٍ مِنْ تَغَرُّبِنَا
إنَّا صَحَونا علَى شُطآنِها صَدَفا
فَلا الشَّناشِيلُ تَحكي عَن طُفُولَتِنا
وَعَنْ أزِّقَةِ خَوفٍ تَجْلِدُ الضُّعَفَـا
لا كَهْفَ يُؤوي.. وَلا الأمطارُ تَغسِلُني
وَقَلبِيَ الطَّيرُ بِالأسْوارِ قَدْ رسَفا
يَا سُرفَةَ الرِّيحِ لا أرضٌ نَلُوذُ بِها
سِوَى العِراقِ الَّذي في غَفلَةٍ نُسِفَا
نَلمُّهُ الشَّيبَ.. أشلاءً مُبَعثَرَةً
وَيَنْفَخُ الطِّينُ في الأحْداقِ حَيْثُ غَفَا
هُنَا وَقَدْ كَانَ يَرسُو في مَحَبَّتِهِ
بَحرٌ.. وَمِنْ كَفّهِ الشَّلالُ كَم غَرَفَا!
يَا أيُّها البَحْرُ عَلَّمْنَاكَ أُحْجِيَةً
وَإنْ تَورَّطَ فِيْنَا الموْتُ وَاحتَرَفَا
إنّ العِراقَ دُمُوعُ الشَّمسِ أوَّلهُ
وَدَمْعُ آخِرِهِ فِي مُقْلَتيَّ طَفَا
***
بعقوبة – 2005

هكذا يجب أن نكون

أحمد الرجيل
كثيرا ما نسمع الحكومة تأخذ على المعارضة أو على المواطن العادي الذي ينتقدها  ـ والذي ليس في عير المعارضة و لا نفير الحكومة ـ أنهما لا يشيدان بما أنجزت من مشاريع و لا يريان الا الجزء الفارغة من الكأس لهؤلاء أقول : عندما تشيد المعارضة بمنجزات الحكومة فإنها لم تعد معارضة بل أصبحت مولاة تتخفى في ثوب المعارضة و يجب أن تنتظم نهارا جهارا في سلك هذه الموالاة و يصبح ما تبدي من الملاحظات لا يخرج عن النقد الذاتي الذي يراد منه تحسين الأداء و توخي الأحسن و الأفضل ، لا يعني ذالك أن المعارضة في حد ذاتها مبدأ و لا خط دائم بل هناك محطات في حياة الأمم و الشعوب لا تقبل أقل من الاجماع لأنها ثوابت يجب أن تبقى فوق الاختلاف و التجاذب إذ هي الاطار العام الذي تدور داخله بيقة التفاصيل الأخرى و لا تمثل خصوصية لأحد ، و لا يمكن إحتكارها من قبل أحد . و المعارضة في حقيقتها مشروع تنموي في الظل مجهز للصدارة و الخروج الى الأضواء يوازي تماما المشروع الذي تنفذه الحكومة ، فإذا رأت المعارضة في الحكومة و إنجازاتها ما يستحق الاشادة فإن ذلك إعتراف ضمني بعدم حيازتها لما هو أفضل و الاشادة بالتالي و الحال هذه هي إفشال دعائي لبرنامجها و تستهدف ـ جديا ـ مبرر وجودها ( المعارضة ) وهو امتلاك البديل الأفضل لما هو قائم ، و القدرة على سد الفراغ في حال فشل المشروع الحكومي ، و يجدر التنبيه أن الفشل هنا لا يعني الفشل المطلق إذ لم يسجل التاريخ أن نظاما أي نظام فشل فشلا كاملا بل هناك دائما نجاح بقدره تكون الحاجة إلى البقاء أو الرحيل . أما المواطن فإن ما يعنيه و ما يمثل له الهاجس الحقيقي هو ما لم يتحقق فمهما كان ما أنجزه  النظام و الحكومة فإنه لا يكفي إلى الأبد و سرعان ما تظهر الحاجة الملحة إلى غيره بعد الافاقة من سكرة الانبهار به ، رغم  انبنائه عليه ، زد على ذلك أن انخراط الجميع الجميع في الاشادة و التمجيد يساهم بشكل فعال في الفساد و التأليه و يتأكد ذلك عندما تكون هذه الانجازات متواضة أو معدومة قياسا بحجم التكلفة أو إذا ما قورنت بمثيلاتها في البلدان المجاورة . و في المجمل يمكن القول للحكومة : أعملي وفق المستطاع دون إهتمام بالثناء ، و للمعارضة أن تعارض دون أن تلتفت إلى تلميح البعض و إتهامها بسبب إختزال هذا البعض للوطن في ذات المؤله ! مع مراعات مصلحة الأمة ، وللمواطن أن لا يقبل منهما إلا المزيد.   

الاثنين، 21 أبريل 2014

دموع الأفئدة للحبيبة شكار



لِيَّـــاسَـرْ عَـن نَّـــــجْبَرْ مَــدَّ   @    مَـــــــنْ شَــــكَارَ تْــرَدَّ مْـــرَدَّ
عَــــنْ شَكَــارُ   ذّ لُ  عـَــدَّ   @   مَـــــــنْ لَـعْـوَامَ مْــتَـانَ عـْـــلِيَّ
وَ أسْمَعْـتَ مْــنَلِّـيــــلُ مُــدَّ   @   رَدَّ مَـــــــــنْ لَـــهْوَالَ الـْـــــحَيَّ 
(مَـنـْهَا شَفْـتَ الْمَقْرَنْ وَ الْوَادْ  @   تَلْطَـــــــفْ بِـــــيَّ يـَـــــــعَرْبِيَّ
وَنيَّـرْقَلْ ذَاكُ صَــــدْرُ زَادْ   @   أمْــــــقَيَّع عَّــــادَ الـْــــــــــــعَيْنِيَّ
فَخْرِيفُ ذَاكَ نَّــعْرَفْ عَادْ   @)   الْ مَنِّيــــــــنَ مَنْتَ أعـْــــــــــلَيَّ

الخميس، 30 يناير 2014

" الدبن و التدين و لمعلمين " قراءة نقدية ( 2 / 3 )


د / مختار الغوث


ثانيا- العفو عن أبي العاص بن الربيع :
أُطلِق أبو العاص بن الربيع بشفاعة من النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا بأمره، وسبب شفاعته فيه أنه لم يكن له من المال ما يفتدي به، كما يفهم من بعْث زوجه زينب في فدائه أغلى ما تملك ، وهو قلادة زفتها فيها أمها خديجة بنت خويلد إلى أبي العاص ..
فلو كان لها ما يفي بفدائه، ما بعثت بها، لنفاستها، أولا، ولكونها ذكرى من أمها المتوفاة، وذكرى من ليلة زفافها ثانيا، وما كان كذلك، كان مما يضنُّ به من التراث، ولا يُتخلَّى عنه في الأحوال العادية. وليس من المتوقع ألا يؤثِّر هذا في أب عادي، يعرف تاريخ هذه القلادة وما تعني لبنته البكر، فكيف إذا كان أبًا برًّا رحيما، كرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكانت القلادة مهداة من خديجة بنت خويلد، المرأة الكاملة التي وجد عندها ما لم يجد عند أحد، وكانت له أما، وزوجا، وأختا، تبره، وتحسن إليه، وتواسيه بمالها، وتهون عليه ما يلقى من أذى قريش؟. والأسير ابن أختها، هالة بنت خويلد، وكان منها بمنزلة الابن، منذ تزوج بنتها. وهو في نفسه رجل نبيل، كريم الخلق، أمين، صدوق، وفي. فمثله تشفع له أخلاقه، عند الناس جميعا، وينال من التقدير ما لا ينال غيره. لقد كان هذا هو دافع شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم في إطلاق أبي العاص، وردِّ متاع زينب إليها، كما قال الواقدي: "فَلَمّا رأى رسول اللَّهِ -صلى اللّهُ عَليه وَسلَّم- القِلادةَ عَرفَهَا وَرَقّ لَهَا، وَذَكَرَ خَدِيجَةَ وَرَحّمَ عليها، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرهَا، وتردوا إلَيها مَتَاعها، فَعَلتُم". فدافِع الشفاعة دافع إنساني نبيل، هو إقالة عثرة كريم، نبا به الدهر، ووفاءٌ لزوج كريمة نبيلة، لزمه النبي -صلى الله عليه وسلم- طوال حياته، فكان يواسي أصدقاءها وأقرباءها ويكرمهم، كما قالت عائشة -رضي الله عنها-: "ما غِرْتُ على أحد من نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكنْ كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطِّعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول: إنها كانت، وكانت، وكان لي منها ولد". (صحيح البخاري)، وقالت:"استأذنتْ هالة بنت خويلد، أخت خديجة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعرف استئذان خديجة؛ فارتاع لذلك، فقال: اللهم هالة!"، (متفق عليه). أي فعرف شبه استئذانها باستئذان خديجة، فقال: اللهم اجعلها هالة، من شوقه إلى أن يرى من هو من خديجة بسبب. وكان أبو العاص بن الربيع -إلى ذلك- مصاحبا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مصافيا له، و"المعارف في أهل النهى ذمم". وقد تعدى بره -صلى الله عليه وسلم- من له به علاقة رحم إلى القبط، فقال: "إنكم ستفتحون مصر،... فإذا فتحتموها، فأحسنوا إلى أهلها؛ فإن لهم ذمة ورحما، أو قال: ذمة وصهرا"، (صحيح مسلم). يعني أن منهم مارية القبطية، أم ابنه إبراهيم -عليه السلام-. وقد عفا -صلى الله عليه وسلم- عن كل "من لا شيء عنده" من أسرى بدر، كأبي عزة الجمحي، لمَّا شكا إليه فقره، وعياله، فقال له: "لي خمس بنات، ليس لهن شيء؛ فتصدَّقْ بي عليهن"، ففعل.


وأيادي خديجة بنت خويلد على النبي -صلى الله عليه وسلم- أيادٍ على المسلمين جميعا، يجب عليهم حفظها، كما حفظها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهي -فوق ذلك- أمٌّ، يجب البر بها.

وقد شفع النبي -صلى الله عليه وسلم في أبي العاص مرة أخرى، إذ أسرته سرية من سراياه، قبيل فتح مكة، فأجارته زينب، بعد أن فرَّق بينهما، فقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- إجارتها، وأمرها أن تكرمه، وشفع له عند السرية أن تردَّ عليه ماله، ففعلوا، فعاد إلى مكة، وأدَّى إلى الناس أموالهم، ثم أعلن بإسلامه، وقال: "والله ما منعني من الإسلام إلا أن تظنوا بي أكل أموالكم"، ثم قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسلما، وحسن إسلامه. ولا جرم أن بر النبي -صلى الله عليه وسلم- به، وإكرامه إياه هو سبب إسلامه، وأن ترغيبه في الإسلام مما كان يتوخى من بره وإكرامه، فضلا عن أنه مما تستدعي المروءة، وغاية الرسالة الهداية لا الجباية. وكل ما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحالين شفاعة حسنة، شفعها إلى أصحابه، في التخلي عن حق من حقوقهم، عجَز المشفوع فيه عن أدائه، وهي شفاعة حسنة، لا ظلْم فيها ولا هضم، ولا أمْر ولا إلزام، فقد قال لمن أسر أبا العاصي يوم بدر: "إنْ رأَيتُم أَن تُطلِقُوا لَها أسيرها، وتردُّوا إلَيهَا مَتَاعَهَا، فَعَلتُم"، وقال للسرية التي أسرته: "إن هذا الرجل منا بحيث علمتم، وقد أصبتم له مالا، وهو مما أفاءه الله عليكم، وأنا أحب أن تحسنوا، وتردُّوا عليه الذي له، فإن أبيتم، فأنتم أحقُّ به". والشفاعة الحسنة مما أمر به الشرع، وأثاب عليه: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها)، "اشفعوا تؤجروا" (صحيح البخاري). وإذا كان الغالب على الظن أن لا يرد الصحابة شفاعة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنما ذلك من حبهم له، وثقتهم بأنه لا يأمرهم إلا بما هو خير وأولى، وأن علاقته بهم ليست كعلاقة الحاكم بالمحكوم، وإنما هي علاقة مقدسة، تسمو على الأبوة والأخوة، أدنى مقتضياتها أنهم إذا رأوا ميله إلى شيء، سارعوا في تحقيقه كما يسارعون في مرضاة الآباء والأمهات، وأعز الإخوان. فإطلاقهم أبا العاص، وتنازلهم عما غنموا من ماله مما يتقربون به إلى الله، ويعلمون أنه خير لهم في الدنيا والآخرة، وأن الله مثيبهم عليه؛ لأنه مما يشير به النبي -صلى الله عليه وسلم-. وهم -بعد- يميزون أمره من شفاعته، ويعلمون أنهم بالخيار فيها، فإن قبلوها، قبلوها مرضاة له، وإن أبوها، أمنوا تبعة الإباء، كما لم تقبل بريرة شفاعته -صلى الله عليه وسلم- إليها أن تراجع زوجها مُغيثا، فقالت له: "يا رسول الله، تأمرني؟ قال: إنما أنا أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه، فكان مغيث يطوف خلفها في سكك المدينة، ودموعه تسيل على لحيته (صحيح البخاري).
فما ينبغي أن تقاس شفاعته في أبي العاص بشفاعة حاكم من حكام الدنيا، يعلم من يشفع إليه أن لا خيار له فيما يريد، ولولا الديبلوماسية، لأمره أمرا، أو أخذ منه من غير استئذان. واختلاف العلاقة عن العلاقة يستوجب النظر إلى القضية نظرة غير النظرة. وكان المنُّ، وأخذ الفدية حقا للآسر، ولم يكونا حقا عاما، يناط بالحاكم، فمن منَّ على أسير، إنما تنازل عن حق خاص، لا مظلمة فيه لأحد. وقد خلى بعض الصحابة سبيل أسراهم، كما خلى أبو أيوب الأنصاري سبيل المطلب بن حنطب، وكان هو الذي أسره.
ولم تكن شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتشفيعه خاصين بأقربائه، ولا بقريش من دون الناس، وإنما شفَّع غير أقربائه، وشفَّع في غيرهم، عونا على الوفاء ومكارم الأخلاق التي كان يحرص عليها، فشفَّع - مثلا- ثابت بن قيس بن شماس في الزبير بن باطا وأهل بيته وماله، وثابت أنصاري، والزبير بن باطا قرظي؛ لأن الزبير كان قد أسره يوم بُعاث، فجزَّ ناصيته، ومنَّ عليه، فأراد أن يكافئه، فشفع فيه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسل، فشفَّعه (سنده مرسل)، وشفَّع سلمى بنت قيس النجَّارية، في رفاعة بن سموءل القرظي، فشفَّعها فيه، فاستحيته.
ولا يخفى ما بين منِّه -صلى الله عليه وسلم- على أبي العاص، وإيثار ذوي القربى بما ليس لهم ولا لمؤْثرهم دون غيرهم، عصبيةً، وامتيازا، واستغلالا للسلطان، وتجاوزا للقانون، كما يفعل الحكام الدنيون. فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يمنن عليه من حيث هو صهر أو قريب، وإنما منَّ عليه من حيث هو أسير معسر، لا يجد ما يفتدي به، فضلا عن الأسباب الإنسانية التي بينا آنفا، ومنَّ على كل معسر مثله. ومن شاء أن يتبين ما بين الأمرين، فلينظر كيف عامل -صلى الله عليه وسلم- أسارى بني هاشم يوم بدر: لقد نهى عن قتلهم؛ لأنهم "أُخرجوا كرها"، ولما تولى عمر بن الخطاب وثاق الأسرى، شدَّ وثاق العباس، فسمعه يئنُّ، فلم يأخذه النوم، فبلغ ذلك الأنصارَ، فأطلقوه، فلما فهموا رضاه بفكِّ وثاقه، سألوه أن يتركوا للعباس فداءه طلبا لتمام رضاه -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "لا تدعون منه درهما" (صحيح البخاري)، وأمر العباس أن يفدي نفسه وابني أخيه، عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، وحليفه عتبة بن عمرو، فاعتذر بأنه كان مسلما، وأن قريشا استكرهته، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم أنه مستكرَه، فلم يعذره، واعتذر إليه بقلة المال، فذكر له مالا، كان قد دفنه هو وزوجه أم الفضل، قبل خروجه إلى بدر، لا يعلم به إلا الله، فأقرَّ به. وفي رواية أنه سأله أن يحسب له في الفداء عشرين أوقية، أصابها المسلمون من مال كان معه، فقال له: "لا، ذاك شيء أعطاناه الله منك"، وأن فداء أسرى بدر كان أربعين أوقية من الذهب، فجعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- على العباس مائة، وعلى ابن عمه عقيل بن أبي طالب ثمانين. فلو كان محابيا أحدا لقرابة، لحابى عمه، وابني عمه، ولا سيما بن أبي طالب الذي رباه، وحماه، فلم يخلص إليه أذى من قريش حتى مات، وهو -إلى ذلك- شقيق أبيه، عبد الله. وكان -صلى الله عليه وسلم- من محبته للعباس، وتعظيمه إياه يقول: "أيها الناس، من آذى عمي، فقد آذاني، فإنما عمُّ الرجل صنو أبيه"، ويقول: "هذا بقية آبائي"، وورد في بعض المصادر أنه أمره بالبقاء في مكة، فكان يكتم إسلامه، وكان يكتب إليه بأخبار "المشركين، وكان مَنْ بمكة مِن المسلمين يتقوون به، وكان لهم عونا على إسلامهم". وقد حضر معه بيعة العقبة الثانية ليتوثق له من الأنصار، ولم يمنن عليه، مع ذلك، ولا على ابني عمه، ولا خفف عنهم الفدية، ولم يلتمس له مخرجا من إسلامه سرا، واستكراهه على الخروج، ولا بما اعتذر به من الإعدام، وهو صحيح في الظاهر، بل كشف له من أمره ما لا يعلمه إلا الله. ولو كان المن على أبي العاص لزينب لأنها بنته فقط، لمنَّ  على العباس، إذ ليس دونها في المنزلة، وعلى ابني عمه، ولا سيما عقيل الذي كان منه بمنزلة الشقيق.


ثالثا - هند ووحشي وخالد :


وازن المقال بين معاملة النبي -صلى الله عليه وسلم- لهند بنت عتبة، ووحشي بن حرب، قاتل حمزة، لمَّا جاءاه مسلمين، أما هند التي استأجرت وحشيا ليقتل حمزة، وبقَرت بطنه، ولاكت كبده، فدخلت "في الإسلام لتنال اللقب الشهير "عزيزة في الكفر، عزيزة في الإسلام"، أما وحشي، فأمره .. أن يتوارى عن أنظاره عند دخوله الإسلام. هند قرشية، ووحشي حبشي، وإلا فما هو سبب التمييز بينهما، وهم في الجرم -على الأقل- سواء، أو إن شئتم الدقة، فهند هي المذنب الحقيقي، و ما ذنب عبد مأجور؟". ووازن بين وحشي وخالد بن الوليد، فقال إن خالدا "كان السبب الرئيسي في هزيمة المسلمين في "أحد"، وقتل عددا من المسلمين، وعند دخوله الإسلام أخذ اللقب الشهير "سيف الله المسلول"، فلماذا لا يتم استقبال وحشي، ويأخذ مثلا لقب "حربة الله التي لا تخطئ الهدف"؟.
وقد عامل النبي -صلى الله عليه وسلم- وحشيا وهندا معاملة واحدة، فقَبِل إسلامَهما، وبايعهما، وجالس وحشيا، وسأله كيف قتل حمزة، وبشَّره بأن الله يغفر الذنوب جميعا، كما ورد في بعض الروايات، وقال له، كما روى الطبراني: "يا وحشي، اخرج، فقاتل في سبيل الله كما قاتلت لتصدَّ عن سبيل الله"، واستقرَّ معه بالمدينة طوال حياته -صلى الله عليه وسلم-، وكان يغشى مجالسه كما يغشاها غيره من المسلمين، كما يبدو من الحديث الذي رواه البيهقي والطبراني، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "ويحك! غيب عني وجهك"، قال: "فكنت أتجنبه، حتى قبضه الله تعالى، فلما بعث أبو بكر -رضي الله عنه- الجيش إلى اليمامة، خرجت مع الناس"، وآية ذلك ما روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأحاديث الصحيحة، وعن أبي بكر بعده، كقوله إنه "عقد لخالد بن الوليد على قتال أهل الردة، وقال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: نعْم عبد الله وأخو العشيرة، خالد بن الوليد"، ثم خرج مع خالد إلى العراق والشام، بعد انتهاء معركة اليمامة، وشهد معركة اليرموك، واستقرَّ بحمص. ولم يكن أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- إياه أن يغيب عنه وجهه طردا له، ولا استهانة به، ولا تمييزا له من غيره، ولا بغضا له، وإنما أراد أن يكون حيث شاء، على ألا يراه، كذلك فهم وحشي، كما يبدو من قوله: "فكنت أتقي أن يراني رسول الله -صلى الله عليه و سلم-". وإنما سأله أن يغيب عنه وجهه لئلا يستثير وجده بعمه الذي كان من أحب خلق الناس إليه، وأكرمهم عليه، إذ كان تِرْبَه، وأخاه من الرضاع، وابن خالته (أمه هالة بنت أهيب بنت عم أمه آمنة بنت وهب)، فضلا عن بطولته، ونصرته، وبلائه في الإسلام. ولقد كان في وسعه -لو كان يبغضه- أن يلقاه كما يلقى المنافقين: يحسن معاشرتهم، ويهش في وجوههم، وقلبه يلعنهم؛ لأنه مطَّلع على ما يضمرون من الكفر. على أن البغض -لو أبغضه- شعور، لا ضير منه ماديا على المكروه، إذا لم يترتب عليه هضم، كما قال أبو مريم الحنفي، قاتل زيد بن الخطاب لعمر بن الخطاب -وقد قال له: "والله لا أحبك حتى تحب الأرض الدم المسفوح"- قال أبو مريم: "فتمنعني لذلك حقا؟"، قال: "لا"، قال: لا ضير، إنما يأسف على الحب النساء". وبغض النبي -صلى الله عليه وسلم- وحشيا -لو أبغضه- شعور طبيعي، فقد "جُبِلَت النفوس على بغض من أساء إليها"، كما قالت عائشة -رضي الله عنها-، وقد غاضب -صلى الله عليه وسلم- ابن عمه وأخاه من الرضاع، أبا سفيان بن الحارث، وابن عمته، وصهرَه، عبد الله بن أبي أمية المخزومي (أخا أم سلمة)، وقد جاءاه مسلمين، وأبى أن يبايعهما، فكلمته فيهما أم سلمة، فقال لها: "لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي، فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري، فهو الذي قال لي بمكة ما قال". فلما خرج الخبر إليهما بذلك، ومع أبي سفيان بنيٌّ له، قال: "والله ليأذننَّ لي أو لآخذنَّ بيد بنيي هذا، ثم لنذهبنَّ في الأرض حتى نموت عطشا وجوعا"، فلما بلغه ذلك رقَّ لهما، وأذن لهما، فدخلا عليه، فأسلما. ومن وازن هذا بما قال لوحشي، علم أن لا مكان فيه للعنصرية والتمييز.
وبايع -صلى الله عليه وسلم- هندا وهي متنقِّبة، كما قال ابن حجر، ولم يأمرها أن تغيِّب وجهها عنه؛ لأنه لم يره، وليس من دأب النساء في زمانه أن يبدين وجوههن للرجال، وهي -إلى ذلك- تقيم بمكة، ويقيم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، فلم يخش منها ما كان يخشى من وحشي. على أن دعوى المقال أن هندا هي التي استأجرت وحشيا ليقتل حمزة مخالفة لما أجمع ما اطلعت عليه من كتب الحديث، والسيرة، والتاريخ، والتراجم، فإن ما ورد فيها أن جبير بن مطعم، مولى وحشي بعثه ليقتل حمزة بعمه، طعيمة بن عدي، وكان حمزة -رضي الله عنه- قتله يوم بدر، فقال له جبير: "إِنْ قتلتَ حَمزة بعمِّي فأنت حُرٌّ" (صحيح البخاري). وما روى الزهري والواقدي عن وحشي، في قتل حمزة، هو أنه كان يمر بهند، فتقول له: "إيه، أبا دسمة، اشف واشتف"، وأنه لما قتله، مرَّ بها، فأعطته ثيابها وحليها (المغازي، للواقدي، 287، ومرويات الإمام الزهري في المغازي، 380)، ولم يذكرا بقْر البطن، ولا حمل الكبد إليها، ولا ورد في شيء من كتب السنة الصحيحة، ولا ورد فيها تحريض هند إياه على قتل حمزة. ومصدر حديث وحشي في قتل حمزة هو جعفر بن عمرو بن أمية الضَّمْرِيُّ، وعبيد الله بن عدي بن الخيار، عن وحشي، ولم يزد فيه وحشي على وصفه لقتل حمزة: "فأضعها (الحربة) فِي ثُنَّتِهِ حتى خَرَجَت مِن بَينِ وركيه، قَالَ: فكَان ذَاك العَهدَ به"، ولم يرد فيه ذكر لهند، ولا شيء مما ينسب إليها في قتل حمزة. وزاد ابن حبان في صحيحه: "فوقعت في ثنته حتى خرجت بين رجليه، فذهب لينوء نحوي فغُلِب، وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته، فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى الناس، فقعدت في العسكر، ولم يكن لي بعده حاجة، إنما قتلته لأعتق، فلما قدمت مكة عتقت". أما كونها بقرت بطنه، فلم يرد في ذلك حديث صحيح. ثم إن الذي يدعي أن هندا مثلت بحمزة يجعل سبب ذلك أنه قتل أباها وعمها، وكونُ حمزة هو الذي قتل أباها عتبة فيه خلاف، فقد قيل إن الذي قتله هو عبيدة بن الحارث بن المطلب، وقيل قتله علي بن أبي طالب وعبيدة. والعارف بتاريخ قريش وأخبارها يعلم أن ما قيل في تمثيل هند بحمزة صورة من صور التاريخ المزوَّر الذي صنعه من يريد تأصيل الخلاف السياسي بين بني هاشم وبني أمية، وأنه ليس بحادث في الإسلام، وإنما بدأ في الجاهلية، منذ ولد هاشم وعبد شمس، وكانا توأمين، فخرج عبد شمس قبل هاشم، وقد لصقت إصبع أحدهما بجبهة الآخر، فلما نُزِعت، دَمِيَ المكان، فقيل سيكون بينهما، أو بين بنيهما دم، على الوجه الذي ذكر المقريزي في "كتاب النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم)، وهو تزوير تكشفه حقائق تاريخ قريش في الجاهلية، والعصبية "المنافية" المعروفة عند قريش بين بني هاشم وبني أمية. وإنما كانت كراهية هند لحمزة وللنبي -صلى الله عليه وسلم- ككراهية كل امرأة موتورة لمن قتل أهلها، وكراهية بعض كفار قريش للنبي -صلى الله عليه وسلم- التي تبدلت بعد الإسلام حبا، فقد روى البخاري "أَنَّ عائشة -رَضِيَ اللَّهُ عنها- قالت: جاءت هند بنت عتبة: قالت يَا رسول اللَّهِ، مَا كَانَ على ظهر الأرضِ مِن أَهل خباء أحب إِلَيَّ أن يَذِلُّوا مِن أَهلِ خِبَائِكَ، ثُمَّ مَا أصبح اليوم على ظهر الأَرضِ أَهلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَن يَعِزُّوا مِن أَهلِ خِبَائِكَ. قَالَ: وأيضا، وَالَّذِي نَفسِي بِيَده"، أي "ستزيدين في ذلك ويتمكن الإيمان في قلبك، فيزيد حبك لرسول الله، ويقوى رجوعك عن غضبه". وأما وصفها بأنها "عزيزة في الجاهلية عزيزة في الإسلام"، فلم يكن من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا أحد من خلفائه وصحابته.
أما تلقيب خالد "سيف الله"، فإنه لقب هو به جدير، ولم يعطَه عن عصبية ولا مجاملة. ومن العجيب أن يطالب المقال بتوزيع الألقاب على الأعراق، لا على المناقب والفعال، ويعدَّ عدمَ فعْل ذلك من العنصرية. وما طالب به المقال من تلقيب وحشي "حربة الله التي لا تخطئ الهدف" ليس له معنى، فلم تعرف لحربة وحشي إصابة في ذات الله إلا مرة واحدة، هي التي قتل فيها مسيلمة، ولا تعرف لها إصابة قبلها ولا بعدها، وما عُرِف به من الرمي كان يعرف غيره من المسلمين في زمانه مثله من أساليب القتال، من غير أن يلقبوا بما مهروا فيه، فقد كان صهيب -رضي الله عنه-، وهو مولى، من أرمى الناس، ومن السابقين الأولين الذين أبلوا في الله بلاء، لا يداني بلاء وحشي، ولم يلقب "قوس الله"، أو "سهم الله"، وأسلمت هوازن، "وكانوا رماة لا يسقط لهم سهم" (صحيح مسلم)، وكانوا من أمس الناس رحما برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومنهم مرضعته حليمة السعدية -رضي الله عنها-، ولم يلقبهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "سهام الله"، ولا أعطاهم أعنة الخيل، كما أعطاها خالدا.
وما ينبغي أن يساوي منصف بين وحشي الذي لم يُعرَف بنباهة، ولا مهارة قيادية، وخالد بن الوليد القائد العبقري الذي دوَّخ العرب والفرس والروم، وأعز الله به دينه، منذ أسلم، وأعلى كلمته، في جزيرة العرب، والعراق، والشام، وكان له من البلاء في ذات الله ما لم يكن لأحد المسلمين. ولو كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتدُّ بالقرابة في شيء مما يولي، لولى عليا، أو غيره من بني هاشم، وكان خالد آخر من يفكر في توليته، لما كان بين بني عبد مناف وبني مخزوم في الجاهلية من تنازع الشرف، كما قال أبو جهل: "تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحلمنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه؟". وكان وحشي -إلى ذلك- شريبا، وقد حُدَّ في الخمر، ومات بها، ولا يصلح شريب للقيادة، إن فرض أنه أوتي من مقوماتها ما يكفي.
أما كون النبي صلى الله عليه وسلم- لم يوله منصبا قياديا كما ولى خالدا، فإن وحشيا لا يعرف أنه كان ذا موهبة قيادية، ولم يرو عنه من المزايا العقلية والبدنية إلا صفتان: أنه كان ماهرا بالرمي بالحراب، وأنه كان قائفا، وليست القيادة مهارة بالحرب، ولا مهارة بأسلوب من أساليبها، فقد كان علي بن أبي طالب فارسا وبطلا شجاعا، ولم يوله النبي -صلى الله عليه وسلم- ما ولى خالدا، مع أنه ابن عمه، وختَنه، ومكانته في الإسلام لا خفاء بها. والقيادة أكبر من مهارة بالرمي، وبأسلوب من أساليب القتال، وهي تخطيط، وسياسة، ودهاء، وحنكة، ولذلك ولى النبي -صلى الله عليه وسلم- خالدا القيادة منذ أسلم، وأمَّر عمرو بن العاص على أبي بكر وعمر وأبي عبيدة، وهم من هم، سابقة، وفضلا، وعقلا، وعلما. وأمَّر زيد بن حارثة، وهو مولى، على ابن عمه، جعفر بن أبي طالب، في غزوة مؤتة، وأمَّر ابنه زيدا على جيش وجهه إلى فلسطين، فيه أبو بكر الصديق، وكبار المهاجرين (الصحيحان)، وهو ابن ثماني عشرة سنة، "فطعن بعض النَّاسِ فِي إمارته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن تطعنوا فِي إمارته، فقد كنتم تطعنون فِي إمارة أبيه مِن قبل، وايْم اللَّهِ إِن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إِلَيَّ، وإن هذا لمن أَحَبِّ النَّاسِ إلي بعده"(صحيح البخاري). ولو كان مبنى الأمر على العنصرية، ما ولاهما.
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أبعد الناس مما ينسب إليه المقال، فقد تبنى زيدا، وكان يدعوه زيد بن محمد، إلى أن نزل قول الله تعالى (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله)، وزوجه بنت عمته، زينب بنت جحش، ثم مولاته، أم أيمن. وكان يرى من حبه له، وحسْن معاملته إياه ما جعله يؤثره على أبيه وعمه، لما خيَّره بين أن يذهب معهما، وقد جاءا في طلبه، أو يبقى معه، فقال له: "ما أنا بالذي أختار عليك أحدا، أنت مني مكان الأب والعم"، فقال له أبوه وعمه: "ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وأهل بيتك؟! قال: نعم، قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا". وقد ولاه -صلى الله عليه وسلم- قيادة عدة غزوات، كغزوة القَرْدة، وغزوة الجَموم، وغزوة جُذام، وغزوة وداي القرى، وغزوة مؤتة. وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: "ما بعث رسول الله -صلى الله عليه و سلم- زيد بن حارثة في سرية إلا أمَّره عليهم، ولو بقي لاستخلفه بعده". وقال في ابنه أسامة: "إن أسامة بن زيد لأحب الناس إلي، أو من أحب الناس إلي، وأنا أرجو أن يكون من صالحيكم، فاستوصوا به خيرا"(مسلم). وروت عائشة أن أسامة عثر "بأسكُفَّة الباب (عتبته)، فشُجَّ في وجهه، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : أميطي عنه، فكأني تقذَّرته، فجعل رسول الله يمصه ثم يمجُّه". ولما فرض عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- للناس، فرَض لأسامة بن زيد خمسة آلاف، وفرض لابنه عبد الله بن عمر ألفين، فقال ابن عمر: فضَّلتَ عليَّ أسامة، وقد شهدتُ ما لم يشهد، فقال له: إن أسامة كان أحب إلى رسول الله منك، وأبوه كان أحب إلى رسول الله من أبيك". وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُنزل أمَّ أيمن منزلة الأم، ويدعوها أمي، وهي أم أسامة، وكانت حبشية، وكان يزورها في بيتها، وتعامله معاملة الأم لابنها؛ لأنها حضنته بعد وفاة أمه. وروى مسلم: "عَنْ أَنَسٍ قَالَ: انطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إِلَى أم أيمن، فانطلقت معه، فناولتْه إناءً فِيهِ شراب، قال: فَلاَ أَدرِى أصادفته صَائِمًا، أَو لم يُرِدْهُ، فجعلت تَصْخَبُ عليه، وَتَذَمَّرُ عليه"، أي تتكلم بالغضب، تدلُّ عليه؛ لأنها ربته. وروى أيضا: "قال أبو بكر بعد وفاة رَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لعمر: انطلق بِنَا إِلَى أُمِّ أيمن نزورها، كما كان رسول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- يزورها". وأبى عمر بن الخطاب أن يوصى بالخلافة لابنه عبد الله، وابن عمه، وصهره، سعيد بن زيد بن نفيل، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأبى أن يوصي بها لعلي بن أبي طالب، ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وختنه، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وقال: "لو كان سالم حيا ما جعلتها شورى". وسالم مولى أبي حذيفة، وتبناه أبو حذيفة كما تبنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة، فكان يرى أنه ابنه، وأنكحه ابنة أخيه، فاطمة بنت الوليد بن عتبة، وهي من المهاجرات، وكانت من أفضل أيامى قريش. أما بلال -رضي الله عنه- فقد أوجز عمر -رضي الله عنه- مكانته عند الصحابة، ولا سيما الخلفاء الراشدين، في قوله: "أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا" (رواه البخاري). وكانوا يحبونه حبا جما، ويأنسون بقربه، ويستوحشون من بعده، فقد أراد مرة أن يخرج إلى الشام، فقال له أبو بكر: "بل تكون عندي، فقال له: إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني، وإن كنت أعتقتني لله -عز وجل- فذرني أذهب إلى الله -عز وجل-، فقال: اذهب". وفي رواية أخرى أنه جاء أبا بكر، فقال له: "إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه و سلم- يقول : "أفضل أعمال المؤمن الجهاد في سبيل الله "، وقد أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت، فقال له أبو بكر: أنشدك الله يا بلال، وحُرْمَتي، وحقي، ألا تتركني، فقد كبِرت، واقترب أجلي. فأقام معه حتى توفي، فجاء إلى عمر -رضي الله عنه- فقال له كما قال لأبي بكر، فردَّ عليه كما ردَّ أبو بكر، فأبى".
هذه هي مكانة الموالي عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعند أبي بكر الصديق، ويدعي المقال أنهما كانا عنصريينِ، وكانت معاملتهما قائمة على التمييز والطبقية!. ولقد كان سيدنا بلال -رضي الله عنه- أولى من وحشي بما أراد له المقال، إن كان لا بدَّ من إشراك الصحابة في المناصب، على حسب الأعراق التي لم يكن "الدين" يعتدُّ بها؛ فقد كان أسبق منه إلى الإسلام، وأتْقى، وأكثر مناقب، وهو -إلى ذلك- حبشي، كوحشي.

"الدين و التدين و لمعمين " قراءة نقدية ( 1 / 3 )




الخطر في هذا المقال أنه يعتمد على أنصاف الحقائق، ويقتصر عليها؛ فيظن قارئه أن لما يبني عليها من آراء وجها من الصواب؛ وأنه لم يزدْ على أنْ نقل نصوصا من مصادر، مسلَّم بمجمل ما فيها، عند المسلمين، وبيَّن معانيها التي يغفلون عنها، أو يحملونها على غير ما ينبغي أن تحمل عليه، بسبب ما ألِفُوا من تقديس الأشخاص تقديسا يحول دون فهم أفعالهم فهما مجردا من التعصب، وما تقتضي العقيدة الدينية.

والاعتماد على أنصاف الحقائق سبب قديم من أسباب الضلال: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله)، وأضرُّ ما يكون بأنصاف المثقفين، الذين يقعد بهم علمهم وفكرهم عن البحث والتحقيق، فيقتصرون على قراءة ما يجدون في وسائل الإعلام، وما شاكله من الكتابات غير العلمية، فيسلِّمون به، ثم يعسر عليهم -إذا اقتنعوا- أن يتراجعوا، ولا سيما إذا كانوا من الأحداث المتطلعين إلى الصيت، ويعجبهم أن يُنْسَبُوا إلى الحداثة والتحرر، وغيرها من الصفات التي خَلَبت ألباب من لا يتعقَّلون، ونزع حبها ببعضهم إلى الإلحاد، في الأعوام الأخيرة. من أجل ذلك رأيت أن أكتب هذا المقال، لا ردًّا على الكاتب، بل تبيانا لحقيقة ما اشتمل عليه مقاله من نصوص، يكثر توظيف مثلها في الكتابات غير العلمية التي تتغيا تشويه الإسلام وتاريخه.

والمقال ردٌّ على فئة من المجتمع البيضاني متدينة، ترى أن يُميَّز الدين من التدين، أي أن يميز الإسلام من العادات، وما فيها من سلبيات، وأنْ لا معيار في الإسلام إلا التقوى، ولا تفاضُلَ إلا بالأعمال، كما هي فحوى كثير من نصوص الشرع، كقول الله -تعالى-: (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم). والذي يترتب على هذا الرأي هو الاستمساك بالدين، والجد في إبطال ما يخالفه من التدين (العادات). ويرى المقال أن الدين هو مصدر التدين، ومصدر ما حاق ببعض البيضان من الظلم والتمييز؛ فمن شاء أن يتحرر من الظلم والتمييز، فعليه أن يتحرر من الدين: "الذي يعاني يجب أن يكون صريحا مع ذاته في سبب معاناته، مهما كان السبب. إذا كان الدين يلعب دورا، فلنقلها بأعلى صوت: يلعب الدين، ورجال الدين، وكتب الدين أدوارهم في كل القضايا الاجتماعية،  قضايا لحراطين، ولمعلمين، وإيكاون، الذين لا زالوا صامتين رغم أن الدين يقرُّ بأن مأكلهم حرام، ومشربهم حرام، وعملهم حرام". والمقال كله يدور على إثبات هذا الرأي، ونقْض ما ترى تلك الفئة التي استهل بعرض رأيها، قبل أن يكر عليه فينقضه: "لا علاقة للدين بقضيتكم، أيها لمعلمين (كذا) الكرام، فلا أنساب في الدين، ولا طبقية، ولا "أمعلمين"، ولا "بيظان"،  و[لا] هم يحزنون، مشكلتكم، إن صح ما تقولون، يمكن إدراجها فيما يعرف بـ"التدين"، تلكم أطروحة جديدة، وقد وجدت من بين لمعلمين أنفسهم من يدافع عنها". ثم يشرع في تبيان أطروحته هو: "دعونا الآن نعود للدين والتدين، حتى نتبين موقع الأنساب، والطبقية من الدين"، فإن منزلة النسب والطبقية من الدين إذا عرفت، عُرِفت منزلتهما من التدين، وعرف صواب تلك "الأطروحة الجديدة" من خطئها. ثم أورد من أخبار العهد النبوي (عهد الدين) ما يرى أنه دليل على منزلة النسب والطبقية من الدين، وهي منزلة لا تختلف عن منزلتهما من "التدين". حتى إذا فرغ من تحليلها، وتبيان دلالتها على ما يذهب إليه، قال لأصحاب "الأطروحة الجديدة": "أريد فقط أن أصل معكم -وأخاطب لمعلمين أساسا- أن محاولة التفريق بين روح الدين وواقع التدين هي محاولات "طيبة، لكنها لا تنافس" (لا يمكن إثباتها)، فالحقائق لا يمكن طمسها: هذا الشبل/ البيظاني من ذاك الأسد". أي: هذا "التدين" من ذاك الدين، وأصل ما تعرفون من تمييزٍ في مجتمعكم ما قرر النبي -صلى الله عليه وسلم- من تمييز قريش من بني قريظة اليهوديين، ووحشيٍّ الحبشي: "الأخوَّة وعلاقة الدم والقربى تمنح حق الرحمة لقريش في الفتح، وتحرم بني قريظة من ذلك الحق. وكل هذه الأمور تتم في عصر الدين، فما بالك بعصر التدين؟". وقريش، وبنو قريظة، ووحشي -في هذا النص- رموز لعناصر البيضان الثلاثة. هذه هي فحوى المقال، وغايته التي يتغيَّا.
وفي المقال أخطاء منهجية، ترتب عليها الخطأ في فهم ما أورد من أخبار، وخطأُ ما انتهى إليه من نتائج. فمن الأخطاء المنهجية الاقتصار على الحادثة معزولة عن سياقها التاريخي والديني والأخلاقي، ومقاصدها الشرعية، وعدم التثبت من صحة بعض الأخبار، والجزم بصحة ما ليس بصحيح منها، وتفسير الحوادث تفسيرا يعتمد على توجيه النيات، بمعزل عما يحفُّ بها من قرائن، تدل على خلاف ما أنهاها إليه، والإسقاط، إسقاط المشاعر والثقافة على حوادث، تنتمي إلى ثقافة أخرى، ومن أسقط على تاريخٍ ثقافةً أو مشاعر غير ثقافة أهله ومشاعرهم، زوَّر، والانتقاء، أي انتقاء جانب من الأخبار، يخدم ما قرر المقال سلفا، دون جانب، وإنكار حقائق التاريخ المجمع عليها، من غير برهان، بالغا ما بلغ من الضعف. هذا إلى انتحال الآراء والنصوص، والإحالة على غير ما اطلع عليه من المراجع، والاكتفاء بإحالة غيره إليها، وإن لم تشتمل على النص الذي يشير إليه، أي إنه يتابع مراجعه في التدليس. وسأقف بالنقد والتحليل عند الأخبار التي استشهد بها.
أولا- أسرى بدر
يرى المقال أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قَبِلَ الفداء من أسرى قريش يوم بدر، ولم يقتلهم؛ لأنهم أهله وعشيرته، وقتل بني قريظة، يوم ظفر بهم؛ لأنهم لم يكونوا كذلك، على ما بين جرْم القبيلتين: "قريش واجهت المسلمين في أكثرَ من معركة، وحاصرتهم حصارا شديدا في الخندق، وفي بدايات الدعوة انتدبت أربعين شابا لقتل محمد [صلى الله عليه وسلم] ليلة الهجرة، وقبل الهجرة، وفي مكة، قتلوا وعذبوا المسلمين أشد تعذيب، وفي فتح مكة وجدوا أمامهم "أخا كريما وابن أخ كريم"، فقال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". بني (كذا) قريظة فقط همُّوا بالتحالف مع المشركين، فكان جزاؤهم القتل الجماعي".
وهذا التفسير مبني على أمرين:
1- ما يرى المقال من وجوب المساواة بين قريش وبني قريظة في المعاملة، ووحشي بن حرب وخالد بن الوليد في الألقاب، بحيث يسمى وحشي "حربة الله التي لا تخطئ الهدف"، كما سُمِّيَ خالد بن الوليد "سيف الله"، وإن لم يكن لتلقيب وحشي بهذا اللقب معنى، ولا لتسويته بخالد بن الوليد مسوغ، والمساواة بين هند ووحشي في أمرهما كليهما بتغييب وجهيهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يرى وجه هند أصلا.
2- إنزال النبي -صلى الله عليه وسلم- منزلة البشر العاديين، بما يكون فيهم من عنصرية، وما يقودهم إليه الهوى من أعمال غير أخلاقية.
ومن اليسير أن يحمَّل الفعل ما يحتمل، من الناحية النظرية، ومن غير اليسير أن يدلل على أن ما يُحَمَّله هو معناه حقا، فضلا عن أن يكون هو معناه الأوحد، و"الدليل القاطع يتطلب لقبوله أكثر من كونه ممكنا"، (مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية، 1/ 131)، و"إذا أردنا أن نصحح الأغلاط المكتسبة من الماضي بصدد محمد [عليه الصلاة والسلام]، فيجب علينا في كل حال من الحالات التي لا يقوم الدليل القاطع على ضدها أن نتمسك بصلابةٍ بصدقه" (الموضع السابق)، كذلك يقول المستشرق الإنجليزي، مونتقمري وات، في انتقاد منهج المستشرقين، وبيان المنهج الذي ينبغي أن تدرس به سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله، إن أريد للدراسة أن تكون علمية؛ إذ الأصل في منطق العلم أن يُتوَسَّل إلى فهم الفعل بما عُهِد من الفاعل، وما أثر عنه من قول، وما عرف به من فكر وأخلاق، إلا أن يتبين ألا وجه للتوفيق بين الفعل والقول والفكر والأخلاق. ومن تعجَّل النقد قبْل الفقه، ضرب القول بالقول، والفعل بالفعل، غير معتدٍّ بالمقاصد، ولا ناظرٍ إلى ما بين المقامات من تباين، فنسبَهما إلى التناقض، فكان عمله على البساطة أدلَّ منه على الوعي والنضج؛ فيكون التكذيبُ، وسوء التفسير، وحملُ الفعل والقول على خلاف ما ينبغي أن يحملا عليه:
وكم من عائبٍ قولا صحيحا     وآفته من الفـهم السقيم
ولـكن تأخـذ الآذان مـنـه     على قدر القرائح والعلوم
هذا إلى أن من كان مدفوعا بغايات محددة سلفا، كان لزاما ألا يفهم الأشياء إلا كما تقتضي الغايات، فمن قرر أن الدين مبني على التمييز والعنصرية، كان حتما ألا يعدَّ قبول النبي -صلى الله عليه وسلم- الفداء من قريش يوم بدر، وعفوه عنهم يوم الفتح إلا تمييزا وإيثارا لذوي القربى، إلا أن يعفو عن بني قريظة. ولو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قتل أسرى قريش، وأباد أهل مكة يوم فتحها، لكان من اليسير على من قرَّر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان حقودا أن يحمل فعله على التشفي والانتقام من قريش؛ لأنهم آذوه قبل الهجرة، وحاربوه بعدها. وكذلك يمكن أن يفهم دعاء نوح -عليه السلام-: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا)، وأن يحمل قول إبراهيم -عليه السلام-: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنّهُ مِنّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنّك غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وقول عيسى -عليه السلام-: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)، على التعصب للأهل والعشيرة. ومن تجرد من شعوره، وثقافته، واعتمد منهج العلم، قوَّم أفعال الأنبياء بمعزل عن كل شيء إلا السياق الذي أُوقِعَت فيه، وما يقتضي المأثور من أقوالهم، والمعروف من تاريخهم وأخلاقهم، وما عرفوا به من تجرد للخير والحق، وإخلاص لله، وحبٍّ لقومهم، وحرص على هدايتهم، فإن الذي علل به سيدنا نوح -عليه السلام- دعاءه هو: (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا)، فتفسيره بحب الانتقام والتشفي عدول عن المنطوق الذي يُحَسُّ ويمكن الحكم عليه، إلى النية التي لا يعلمها إلا الله. ومعلوم في علم المنهجية (الإبستمولوجيا) أن الحكم لا يكون علميا إلا إذا أمكن اختباره، وأن الحكم على النية ليس مما يمكن اختباره، فليس بعلمي. ووضع ما أورد المقال من الأخبار في سياقه الصحيح يكشف عن غير ما انتهى إليه. فعدول النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قتل أسرى بدر كان مدفوعا بدافعين: ما فطر عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من اللين والرحمة، كما قال فيه ربه: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)، ونفْعُ من معه من المسلمين وتقويتهم بما يأخذون من الفداء. أما القرابة، فلم يكن لها أثر في ذلك، ولا في شيء من حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- خارج ما قرر الشرع. وكان المقام -إلى ذلك- مقام فرقان، كما سماه الله: (وما أصابكم يوم الفرقان يوم التقى الجمعان). ولما عاتب الله المسلمين على قبول الفداء، لأن الأولى يومئذ أن يقتل المشركون حتى يُرْهَب بهم أعداء الله، عاتبهم على أخذ الفداء، وجعله من حب الدنيا: (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة)، ولم يعاتبهم بأنهم أرادوا غير ذلك، ولو علم غير ما عاتبهم به، لبينه لهم، وهو أعلم بما تخفي الصدور، كما بينه في آيات أخرى، كقوله: (يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن تروضها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين).     وقبول الفداء دليل على نبل النبي -صلى الله عليه وسلم- وكرمه، وسلامة صدره من الحقد، ورغبته عن الثأر والانتقام الذي هو خليقة في الإنسان، كما يدل على لينه ورحمته ورفقه بالناس، وحرصه على هدايتهم؛ فقد عفا عمن آذوه، وأخرجوه من أهله ووطنه، فلما قدر عليهم لم يأخذهم بما يقتضي سوء معاملتهم، وإنما رضي منهم بالفداء، لعل الله أن يهديهم إلى الحق، والهداية هي غاية الرسالة، وراعى حاجة المجاهدين، ولا سيما المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، فكانوا عالة على الأنصار بالمدينة، بأن أباح لهم أخذ الفدية، ليتقووا بها.
ولما كانت غزوة بدر أول غزوة يأسر فيها المسلمون أسرى، ولم يكن قد نزل عليه حكم في الأسرى، استشار -صلى الله عليه وسلم- أصحابه فيما يفعل بهم، فقال له أبو بكر: "يَا نَبِىَّ اللَّه، هُم بنو العمِّ وَالعشيرة، أَرَى أَن تَأخذَ مِنهم فِديَة، فَتَكونُ لَنَا قوَّة علَى الكفار، فَعَسَى اللَّهُ أَن يَهدِيَهُم لِلإِسلاَمِ". (صحيح مسلم). وإنما ذكَّره أبو بكر بالرحم والقرابة استعطافا وتليينا له، كما قال الواقدي: "وَأَبُو بَكْرٍ يُلَيِّنُه وَيَفْثَؤُهُ". والإحسان إلى ذوي الرحم، والعطف عليهم، واللين لهم أمر مشروع، فقد قال الله -تعالى-: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام). وهو مما فطر عليه البشر، بل مما فطر عليه الحيوان، وصلة الرحم، والإحسان إلى ذوي القربى، والبدء بهم قبل غيرهم مما حض عليه الشرع، وأثاب عليه، كقول الله تعالى: (وآت ذا القربى حقه)، (والجار ذي القربى والجار الجنب)، (قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين)، (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى)، "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة"، "خيركم خيركم لأهله وأنا خير لأهلي"، يقول القرطبي: "وخير الصدقة ما كان على القريب، وفيها صلة الرحم، وقد فضل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصدقة على الأقارب على عتق الرقاب، فقال لميمونة وقد أعتقت وليدة: أما إنك لو أعطيتها أخوالك، كان أعظم لأجرك. وقال مجاهد وقتادة: صلة الرحم فرض من الله -عز وجل-، حتى قال مجاهد: لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاجة". وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه برا وصولا، محبا لقريش، ولذلك قال أسرى بدر، كما روى الواقدي: "لو بعثنا إلَى أَبِي بكر، فَإِنّه أوصل قريش لأرحامنا". ومدح النبي -صلى الله عليه وسلم- عمه العباس بأنه "أشد قريش لقريش حبا"، و"أنه أجود قريش كفا، وأوصلها". وفي إحدى روايات حديث المعراج يقول جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم-، لما سأله عن النبي الذي رآه في السماء الخامسة: "هذا المحبَّب في قومه، هارون بن عمران"، وهي منقبة من مناقبه، ولا يكون محببا فيهم إلا ببر وإحسان. وحب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر لقريش، وبرهم بهم مما يمتثلان به أمر الله. وإنما المذموم خلُقا، والمحرم شرعا أن يعطي مَنْ لا يملك أقرباءه ما لا يستحقون، وأن يوادَّهم ويتولاهم وهم يحادون الله: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم). وقد قاتل النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر عشيرته، وفيهم أقرب الناس إليه (بنو عبد مناف)، فقتل منهم سبعين، وكان يبرأ من عمه أبي لهب، وفيه نزلت سورة من دون من كانوا يعادونه من الناس. وكان أبو بكر أبعد الناس عن العصبية، وموالاةِ من يعادي الله، وفي بعض الروايات أنه بارز ابنه عبد الرحمن يوم بدر، وكاد يقتله، وأن الآية السابقة نزلت فيه. وليست رحمته بأسرى قريش موادةً لهم؛ فقد كانوا يحادون الله ورسوله، ولا عصبية؛ فما كان ليقاتل بكره في ذات الله ثم يواد من هو أبعد منه، على سبيل العصبية، ويحرص على استبقائه من أجل القرابة. وإذا كان من غير الممكن أن يكون عمر مدفوعا بحقد على قريش، إذ قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "أرى أن تمكنَّا فنضربَ أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل، فيضرب عنقه، وتمكنِّي من فلان (نسيبا لعمر) فأضرب عنقه؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها"، (رواه مسلم)؛ وإنما ينظر للإسلام والمسلمين، ويرى أن يضرب أهل الشرك حتى يرهب بهم المشركون، ويلقى في قلوبهم هيبة المسلمين، فكذلك كان أبو بكر، أيضا، ينظر للإسلام، فهو يرجو أن يسلم هؤلاء الأسرى، فيكونوا عزا للإسلام وعونا للمسلمين، وينقذهم الله بالنبي -صلى الله عليه وسلم- من النار، وتكون الفدية عونا للمسلمين على الكفار. وهو ما أراد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يرد غيره، وهو ما آل إليه حكم الشرع في الأسرى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء)، وأشارت آية الأنفال المعاتِبة إلى أنه هو الذي كان مقدرا في علم الله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)، أما رأي عمر، فهو الذي عبرت عنه الآية: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض). وقد كان أبو بكر وعمر متأثرين بتكوينهما النفسي الذي ينزع بكل امرئ إلى ما يلائمه من اللين والشدة، وهما -كما قال فيهما النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر"، وليس فيهما من كان مدفوعا بعصبية لقريش ولا عصبية عليها، فلين النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر لين في الله، وشدة عمر شدة فيه. ورقة النبي -صلى الله عليه وسلم- لعشيرته وعطفه عليها وحبه لها لا يترتب عليهما إيثار لها، ولا مخالفة لحكم الله فيها، فإن الميل أمر قلبي لا يد للمرء فيه، وإنما يؤاخذ بما يفعل، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم هذا قسْمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك"، فهو يعدل بين أزواجه في القسمة، والعدل فيها مما يملك، ولا يسوي بينهن في الحب؛ لأنه مما لا يملك، وكذلك حب العشيرة، وما يضع الله لها في القلب، لا يد للمرء فيه، لكنه لا يتجاوز القلب إلى ما وراءه، إلا فيما فيه مرضاة الله. وإنما يصح وصف العفو عن قريش بالمحاباة، لو كان في الأسرى أناس من غير قريش، فمنَّ على القرشيين، أو قبل الفدية منهم دونهم.
أما موازنة فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- بأسرى بدر بفعله ببني قريظة، فقياس مع الفارق، ولو وازن ما فعل بأسرى بدر بما فعل ببني النضير وبني قينقاع، لكان ذلك أدنى إلى الصواب، فإنه لما قدر عليهم، عفا عنهم، وألزمهم الجلاء من المدينة. وقد غفل المقال عن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- منَّ على بني قريظة بعد انتصاره عليهم أول مرة، ولم يأخذ منهم فدية، وإنما رضي منهم بالعهد، وأمَّل أن يكونوا جيرانا، يأمن شرهم، بعهد أن يئس من أن يكونوا مواطنين يرجو خيرهم، فلما نقضوا العهد في المرة الثانية، عاملهم بما يقتضيه نقض العهد. فمعاملته نبي قريظة في المرة الأولى كانت أفضل من معاملته أسرى قريش، أما المعاملة الثانية، فإنما ينبغي أن تقارن بمعاملة قريش يوم الفتح.


شارك

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More