![]() |
د / مختار الغوث |
ثانيا- العفو عن أبي العاص بن الربيع :
أُطلِق أبو العاص بن الربيع بشفاعة من النبي
-صلى الله عليه وسلم-، لا بأمره، وسبب شفاعته فيه أنه لم يكن له من المال ما يفتدي
به، كما يفهم من بعْث زوجه زينب في فدائه أغلى ما تملك ، وهو قلادة زفتها فيها أمها
خديجة بنت خويلد إلى أبي العاص ..
فلو كان لها ما يفي بفدائه، ما بعثت بها،
لنفاستها، أولا، ولكونها ذكرى من أمها المتوفاة، وذكرى من ليلة زفافها ثانيا، وما كان
كذلك، كان مما يضنُّ به من التراث، ولا يُتخلَّى عنه في الأحوال العادية. وليس من المتوقع
ألا يؤثِّر هذا في أب عادي، يعرف تاريخ هذه القلادة وما تعني لبنته البكر، فكيف إذا
كان أبًا برًّا رحيما، كرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكانت القلادة مهداة من خديجة
بنت خويلد، المرأة الكاملة التي وجد عندها ما لم يجد عند أحد، وكانت له أما، وزوجا،
وأختا، تبره، وتحسن إليه، وتواسيه بمالها، وتهون عليه ما يلقى من أذى قريش؟. والأسير
ابن أختها، هالة بنت خويلد، وكان منها بمنزلة الابن، منذ تزوج بنتها. وهو في نفسه رجل
نبيل، كريم الخلق، أمين، صدوق، وفي. فمثله تشفع له أخلاقه، عند الناس جميعا، وينال
من التقدير ما لا ينال غيره. لقد كان هذا هو دافع شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم
في إطلاق أبي العاص، وردِّ متاع زينب إليها، كما قال الواقدي: "فَلَمّا رأى رسول
اللَّهِ -صلى اللّهُ عَليه وَسلَّم- القِلادةَ عَرفَهَا وَرَقّ لَهَا، وَذَكَرَ خَدِيجَةَ
وَرَحّمَ عليها، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرهَا، وتردوا إلَيها مَتَاعها، فَعَلتُم".
فدافِع الشفاعة دافع إنساني نبيل، هو إقالة عثرة كريم، نبا به الدهر، ووفاءٌ لزوج كريمة
نبيلة، لزمه النبي -صلى الله عليه وسلم- طوال حياته، فكان يواسي أصدقاءها وأقرباءها
ويكرمهم، كما قالت عائشة -رضي الله عنها-: "ما غِرْتُ على أحد من نساء النبي
-صلى الله عليه وسلم- ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكنْ كان النبي -صلى الله عليه
وسلم- يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطِّعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة،
فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول: إنها كانت، وكانت، وكان
لي منها ولد". (صحيح البخاري)، وقالت:"استأذنتْ هالة بنت خويلد، أخت خديجة
على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعرف استئذان خديجة؛ فارتاع لذلك، فقال: اللهم
هالة!"، (متفق عليه). أي فعرف شبه استئذانها باستئذان خديجة، فقال: اللهم اجعلها
هالة، من شوقه إلى أن يرى من هو من خديجة بسبب. وكان أبو العاص بن الربيع -إلى ذلك-
مصاحبا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مصافيا له، و"المعارف في أهل النهى ذمم".
وقد تعدى بره -صلى الله عليه وسلم- من له به علاقة رحم إلى القبط، فقال: "إنكم
ستفتحون مصر،... فإذا فتحتموها، فأحسنوا إلى أهلها؛ فإن لهم ذمة ورحما، أو قال: ذمة
وصهرا"، (صحيح مسلم). يعني أن منهم مارية القبطية، أم ابنه إبراهيم -عليه السلام-.
وقد عفا -صلى الله عليه وسلم- عن كل "من لا شيء عنده" من أسرى بدر، كأبي
عزة الجمحي، لمَّا شكا إليه فقره، وعياله، فقال له: "لي خمس بنات، ليس لهن شيء؛
فتصدَّقْ بي عليهن"، ففعل.
وأيادي خديجة بنت خويلد على النبي -صلى
الله عليه وسلم- أيادٍ على المسلمين جميعا، يجب عليهم حفظها، كما حفظها النبي -صلى
الله عليه وسلم-، وهي -فوق ذلك- أمٌّ، يجب البر بها.
وقد شفع النبي -صلى الله عليه وسلم في أبي
العاص مرة أخرى، إذ أسرته سرية من سراياه، قبيل فتح مكة، فأجارته زينب، بعد أن فرَّق
بينهما، فقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- إجارتها، وأمرها أن تكرمه، وشفع له عند السرية
أن تردَّ عليه ماله، ففعلوا، فعاد إلى مكة، وأدَّى إلى الناس أموالهم، ثم أعلن بإسلامه،
وقال: "والله ما منعني من الإسلام إلا أن تظنوا بي أكل أموالكم"، ثم قدم
على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسلما، وحسن إسلامه. ولا جرم أن بر النبي -صلى
الله عليه وسلم- به، وإكرامه إياه هو سبب إسلامه، وأن ترغيبه في الإسلام مما كان يتوخى
من بره وإكرامه، فضلا عن أنه مما تستدعي المروءة، وغاية الرسالة الهداية لا الجباية.
وكل ما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحالين شفاعة حسنة، شفعها إلى أصحابه، في
التخلي عن حق من حقوقهم، عجَز المشفوع فيه عن أدائه، وهي شفاعة حسنة، لا ظلْم فيها
ولا هضم، ولا أمْر ولا إلزام، فقد قال لمن أسر أبا العاصي يوم بدر: "إنْ رأَيتُم
أَن تُطلِقُوا لَها أسيرها، وتردُّوا إلَيهَا مَتَاعَهَا، فَعَلتُم"، وقال للسرية
التي أسرته: "إن هذا الرجل منا بحيث علمتم، وقد أصبتم له مالا، وهو مما أفاءه
الله عليكم، وأنا أحب أن تحسنوا، وتردُّوا عليه الذي له، فإن أبيتم، فأنتم أحقُّ به".
والشفاعة الحسنة مما أمر به الشرع، وأثاب عليه: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها)،
"اشفعوا تؤجروا" (صحيح البخاري). وإذا كان الغالب على الظن أن لا يرد الصحابة
شفاعة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنما ذلك من حبهم له، وثقتهم بأنه لا يأمرهم إلا
بما هو خير وأولى، وأن علاقته بهم ليست كعلاقة الحاكم بالمحكوم، وإنما هي علاقة مقدسة،
تسمو على الأبوة والأخوة، أدنى مقتضياتها أنهم إذا رأوا ميله إلى شيء، سارعوا في تحقيقه
كما يسارعون في مرضاة الآباء والأمهات، وأعز الإخوان. فإطلاقهم أبا العاص، وتنازلهم
عما غنموا من ماله مما يتقربون به إلى الله، ويعلمون أنه خير لهم في الدنيا والآخرة،
وأن الله مثيبهم عليه؛ لأنه مما يشير به النبي -صلى الله عليه وسلم-. وهم -بعد- يميزون
أمره من شفاعته، ويعلمون أنهم بالخيار فيها، فإن قبلوها، قبلوها مرضاة له، وإن أبوها،
أمنوا تبعة الإباء، كما لم تقبل بريرة شفاعته -صلى الله عليه وسلم- إليها أن تراجع
زوجها مُغيثا، فقالت له: "يا رسول الله، تأمرني؟ قال: إنما أنا أشفع، قالت: لا
حاجة لي فيه، فكان مغيث يطوف خلفها في سكك المدينة، ودموعه تسيل على لحيته (صحيح البخاري).
فما ينبغي أن تقاس شفاعته في أبي العاص
بشفاعة حاكم من حكام الدنيا، يعلم من يشفع إليه أن لا خيار له فيما يريد، ولولا الديبلوماسية،
لأمره أمرا، أو أخذ منه من غير استئذان. واختلاف العلاقة عن العلاقة يستوجب النظر إلى
القضية نظرة غير النظرة. وكان المنُّ، وأخذ الفدية حقا للآسر، ولم يكونا حقا عاما،
يناط بالحاكم، فمن منَّ على أسير، إنما تنازل عن حق خاص، لا مظلمة فيه لأحد. وقد خلى
بعض الصحابة سبيل أسراهم، كما خلى أبو أيوب الأنصاري سبيل المطلب بن حنطب، وكان هو
الذي أسره.
ولم تكن شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-
وتشفيعه خاصين بأقربائه، ولا بقريش من دون الناس، وإنما شفَّع غير أقربائه، وشفَّع
في غيرهم، عونا على الوفاء ومكارم الأخلاق التي كان يحرص عليها، فشفَّع - مثلا- ثابت
بن قيس بن شماس في الزبير بن باطا وأهل بيته وماله، وثابت أنصاري، والزبير بن باطا
قرظي؛ لأن الزبير كان قد أسره يوم بُعاث، فجزَّ ناصيته، ومنَّ عليه، فأراد أن يكافئه،
فشفع فيه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسل، فشفَّعه (سنده مرسل)، وشفَّع سلمى بنت
قيس النجَّارية، في رفاعة بن سموءل القرظي، فشفَّعها فيه، فاستحيته.
ولا يخفى ما بين منِّه -صلى الله عليه وسلم-
على أبي العاص، وإيثار ذوي القربى بما ليس لهم ولا لمؤْثرهم دون غيرهم، عصبيةً، وامتيازا،
واستغلالا للسلطان، وتجاوزا للقانون، كما يفعل الحكام الدنيون. فإن النبي -صلى الله
عليه وسلم- لم يمنن عليه من حيث هو صهر أو قريب، وإنما منَّ عليه من حيث هو أسير معسر،
لا يجد ما يفتدي به، فضلا عن الأسباب الإنسانية التي بينا آنفا، ومنَّ على كل معسر
مثله. ومن شاء أن يتبين ما بين الأمرين، فلينظر كيف عامل -صلى الله عليه وسلم- أسارى
بني هاشم يوم بدر: لقد نهى عن قتلهم؛ لأنهم "أُخرجوا كرها"، ولما تولى عمر
بن الخطاب وثاق الأسرى، شدَّ وثاق العباس، فسمعه يئنُّ، فلم يأخذه النوم، فبلغ ذلك
الأنصارَ، فأطلقوه، فلما فهموا رضاه بفكِّ وثاقه، سألوه أن يتركوا للعباس فداءه طلبا
لتمام رضاه -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "لا تدعون منه درهما" (صحيح البخاري)،
وأمر العباس أن يفدي نفسه وابني أخيه، عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، وحليفه عتبة
بن عمرو، فاعتذر بأنه كان مسلما، وأن قريشا استكرهته، والنبي -صلى الله عليه وسلم-
يعلم أنه مستكرَه، فلم يعذره، واعتذر إليه بقلة المال، فذكر له مالا، كان قد دفنه هو
وزوجه أم الفضل، قبل خروجه إلى بدر، لا يعلم به إلا الله، فأقرَّ به. وفي رواية أنه
سأله أن يحسب له في الفداء عشرين أوقية، أصابها المسلمون من مال كان معه، فقال له:
"لا، ذاك شيء أعطاناه الله منك"، وأن فداء أسرى بدر كان أربعين أوقية من
الذهب، فجعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- على العباس مائة، وعلى ابن عمه عقيل بن أبي
طالب ثمانين. فلو كان محابيا أحدا لقرابة، لحابى عمه، وابني عمه، ولا سيما بن أبي طالب
الذي رباه، وحماه، فلم يخلص إليه أذى من قريش حتى مات، وهو -إلى ذلك- شقيق أبيه، عبد
الله. وكان -صلى الله عليه وسلم- من محبته للعباس، وتعظيمه إياه يقول: "أيها الناس،
من آذى عمي، فقد آذاني، فإنما عمُّ الرجل صنو أبيه"، ويقول: "هذا بقية آبائي"،
وورد في بعض المصادر أنه أمره بالبقاء في مكة، فكان يكتم إسلامه، وكان يكتب إليه بأخبار
"المشركين، وكان مَنْ بمكة مِن المسلمين يتقوون به، وكان لهم عونا على إسلامهم".
وقد حضر معه بيعة العقبة الثانية ليتوثق له من الأنصار، ولم يمنن عليه، مع ذلك، ولا
على ابني عمه، ولا خفف عنهم الفدية، ولم يلتمس له مخرجا من إسلامه سرا، واستكراهه على
الخروج، ولا بما اعتذر به من الإعدام، وهو صحيح في الظاهر، بل كشف له من أمره ما لا
يعلمه إلا الله. ولو كان المن على أبي العاص لزينب لأنها بنته فقط، لمنَّ على العباس، إذ ليس دونها في المنزلة، وعلى ابني
عمه، ولا سيما عقيل الذي كان منه بمنزلة الشقيق.
ثالثا - هند ووحشي وخالد :
وازن المقال بين معاملة النبي -صلى الله
عليه وسلم- لهند بنت عتبة، ووحشي بن حرب، قاتل حمزة، لمَّا جاءاه مسلمين، أما هند التي
استأجرت وحشيا ليقتل حمزة، وبقَرت بطنه، ولاكت كبده، فدخلت "في الإسلام لتنال
اللقب الشهير "عزيزة في الكفر، عزيزة في الإسلام"، أما وحشي، فأمره .. أن
يتوارى عن أنظاره عند دخوله الإسلام. هند قرشية، ووحشي حبشي، وإلا فما هو سبب التمييز
بينهما، وهم في الجرم -على الأقل- سواء، أو إن شئتم الدقة، فهند هي المذنب الحقيقي،
و ما ذنب عبد مأجور؟". ووازن بين وحشي وخالد بن الوليد، فقال إن خالدا "كان
السبب الرئيسي في هزيمة المسلمين في "أحد"، وقتل عددا من المسلمين، وعند
دخوله الإسلام أخذ اللقب الشهير "سيف الله المسلول"، فلماذا لا يتم استقبال
وحشي، ويأخذ مثلا لقب "حربة الله التي لا تخطئ الهدف"؟.
وقد عامل النبي -صلى الله عليه وسلم- وحشيا
وهندا معاملة واحدة، فقَبِل إسلامَهما، وبايعهما، وجالس وحشيا، وسأله كيف قتل حمزة،
وبشَّره بأن الله يغفر الذنوب جميعا، كما ورد في بعض الروايات، وقال له، كما روى الطبراني:
"يا وحشي، اخرج، فقاتل في سبيل الله كما قاتلت لتصدَّ عن سبيل الله"، واستقرَّ
معه بالمدينة طوال حياته -صلى الله عليه وسلم-، وكان يغشى مجالسه كما يغشاها غيره من
المسلمين، كما يبدو من الحديث الذي رواه البيهقي والطبراني، أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- قال له: "ويحك! غيب عني وجهك"، قال: "فكنت أتجنبه، حتى قبضه الله
تعالى، فلما بعث أبو بكر -رضي الله عنه- الجيش إلى اليمامة، خرجت مع الناس"، وآية
ذلك ما روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأحاديث الصحيحة، وعن أبي بكر بعده،
كقوله إنه "عقد لخالد بن الوليد على قتال أهل الردة، وقال: إني سمعت رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يقول: نعْم عبد الله وأخو العشيرة، خالد بن الوليد"، ثم
خرج مع خالد إلى العراق والشام، بعد انتهاء معركة اليمامة، وشهد معركة اليرموك، واستقرَّ
بحمص. ولم يكن أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- إياه أن يغيب عنه وجهه طردا له، ولا
استهانة به، ولا تمييزا له من غيره، ولا بغضا له، وإنما أراد أن يكون حيث شاء، على
ألا يراه، كذلك فهم وحشي، كما يبدو من قوله: "فكنت أتقي أن يراني رسول الله -صلى
الله عليه و سلم-". وإنما سأله أن يغيب عنه وجهه لئلا يستثير وجده بعمه الذي كان
من أحب خلق الناس إليه، وأكرمهم عليه، إذ كان تِرْبَه، وأخاه من الرضاع، وابن خالته
(أمه هالة بنت أهيب بنت عم أمه آمنة بنت وهب)، فضلا عن بطولته، ونصرته، وبلائه في الإسلام.
ولقد كان في وسعه -لو كان يبغضه- أن يلقاه كما يلقى المنافقين: يحسن معاشرتهم، ويهش
في وجوههم، وقلبه يلعنهم؛ لأنه مطَّلع على ما يضمرون من الكفر. على أن البغض -لو أبغضه-
شعور، لا ضير منه ماديا على المكروه، إذا لم يترتب عليه هضم، كما قال أبو مريم الحنفي،
قاتل زيد بن الخطاب لعمر بن الخطاب -وقد قال له: "والله لا أحبك حتى تحب الأرض
الدم المسفوح"- قال أبو مريم: "فتمنعني لذلك حقا؟"، قال: "لا"،
قال: لا ضير، إنما يأسف على الحب النساء". وبغض النبي -صلى الله عليه وسلم- وحشيا
-لو أبغضه- شعور طبيعي، فقد "جُبِلَت النفوس على بغض من أساء إليها"، كما
قالت عائشة -رضي الله عنها-، وقد غاضب -صلى الله عليه وسلم- ابن عمه وأخاه من الرضاع،
أبا سفيان بن الحارث، وابن عمته، وصهرَه، عبد الله بن أبي أمية المخزومي (أخا أم سلمة)،
وقد جاءاه مسلمين، وأبى أن يبايعهما، فكلمته فيهما أم سلمة، فقال لها: "لا حاجة
لي بهما، أما ابن عمي، فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري، فهو الذي قال لي بمكة ما قال".
فلما خرج الخبر إليهما بذلك، ومع أبي سفيان بنيٌّ له، قال: "والله ليأذننَّ لي
أو لآخذنَّ بيد بنيي هذا، ثم لنذهبنَّ في الأرض حتى نموت عطشا وجوعا"، فلما بلغه
ذلك رقَّ لهما، وأذن لهما، فدخلا عليه، فأسلما. ومن وازن هذا بما قال لوحشي، علم أن
لا مكان فيه للعنصرية والتمييز.
وبايع -صلى الله عليه وسلم- هندا وهي متنقِّبة،
كما قال ابن حجر، ولم يأمرها أن تغيِّب وجهها عنه؛ لأنه لم يره، وليس من دأب النساء
في زمانه أن يبدين وجوههن للرجال، وهي -إلى ذلك- تقيم بمكة، ويقيم النبي -صلى الله
عليه وسلم- بالمدينة، فلم يخش منها ما كان يخشى من وحشي. على أن دعوى المقال أن هندا
هي التي استأجرت وحشيا ليقتل حمزة مخالفة لما أجمع ما اطلعت عليه من كتب الحديث، والسيرة،
والتاريخ، والتراجم، فإن ما ورد فيها أن جبير بن مطعم، مولى وحشي بعثه ليقتل حمزة بعمه،
طعيمة بن عدي، وكان حمزة -رضي الله عنه- قتله يوم بدر، فقال له جبير: "إِنْ قتلتَ
حَمزة بعمِّي فأنت حُرٌّ" (صحيح البخاري). وما روى الزهري والواقدي عن وحشي، في
قتل حمزة، هو أنه كان يمر بهند، فتقول له: "إيه، أبا دسمة، اشف واشتف"، وأنه
لما قتله، مرَّ بها، فأعطته ثيابها وحليها (المغازي، للواقدي، 287، ومرويات الإمام
الزهري في المغازي، 380)، ولم يذكرا بقْر البطن، ولا حمل الكبد إليها، ولا ورد في شيء
من كتب السنة الصحيحة، ولا ورد فيها تحريض هند إياه على قتل حمزة. ومصدر حديث وحشي
في قتل حمزة هو جعفر بن عمرو بن أمية الضَّمْرِيُّ، وعبيد الله بن عدي بن الخيار، عن
وحشي، ولم يزد فيه وحشي على وصفه لقتل حمزة: "فأضعها (الحربة) فِي ثُنَّتِهِ حتى
خَرَجَت مِن بَينِ وركيه، قَالَ: فكَان ذَاك العَهدَ به"، ولم يرد فيه ذكر لهند،
ولا شيء مما ينسب إليها في قتل حمزة. وزاد ابن حبان في صحيحه: "فوقعت في ثنته
حتى خرجت بين رجليه، فذهب لينوء نحوي فغُلِب، وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته، فأخذت
حربتي، ثم رجعت إلى الناس، فقعدت في العسكر، ولم يكن لي بعده حاجة، إنما قتلته لأعتق،
فلما قدمت مكة عتقت". أما كونها بقرت بطنه، فلم يرد في ذلك حديث صحيح. ثم إن الذي
يدعي أن هندا مثلت بحمزة يجعل سبب ذلك أنه قتل أباها وعمها، وكونُ حمزة هو الذي قتل
أباها عتبة فيه خلاف، فقد قيل إن الذي قتله هو عبيدة بن الحارث بن المطلب، وقيل قتله
علي بن أبي طالب وعبيدة. والعارف بتاريخ قريش وأخبارها يعلم أن ما قيل في تمثيل هند
بحمزة صورة من صور التاريخ المزوَّر الذي صنعه من يريد تأصيل الخلاف السياسي بين بني
هاشم وبني أمية، وأنه ليس بحادث في الإسلام، وإنما بدأ في الجاهلية، منذ ولد هاشم وعبد
شمس، وكانا توأمين، فخرج عبد شمس قبل هاشم، وقد لصقت إصبع أحدهما بجبهة الآخر، فلما
نُزِعت، دَمِيَ المكان، فقيل سيكون بينهما، أو بين بنيهما دم، على الوجه الذي ذكر المقريزي
في "كتاب النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم)، وهو تزوير تكشفه حقائق
تاريخ قريش في الجاهلية، والعصبية "المنافية" المعروفة عند قريش بين بني
هاشم وبني أمية. وإنما كانت كراهية هند لحمزة وللنبي -صلى الله عليه وسلم- ككراهية
كل امرأة موتورة لمن قتل أهلها، وكراهية بعض كفار قريش للنبي -صلى الله عليه وسلم-
التي تبدلت بعد الإسلام حبا، فقد روى البخاري "أَنَّ عائشة -رَضِيَ اللَّهُ عنها-
قالت: جاءت هند بنت عتبة: قالت يَا رسول اللَّهِ، مَا كَانَ على ظهر الأرضِ مِن أَهل
خباء أحب إِلَيَّ أن يَذِلُّوا مِن أَهلِ خِبَائِكَ، ثُمَّ مَا أصبح اليوم على ظهر
الأَرضِ أَهلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَن يَعِزُّوا مِن أَهلِ خِبَائِكَ. قَالَ:
وأيضا، وَالَّذِي نَفسِي بِيَده"، أي "ستزيدين في ذلك ويتمكن الإيمان في
قلبك، فيزيد حبك لرسول الله، ويقوى رجوعك عن غضبه". وأما وصفها بأنها "عزيزة
في الجاهلية عزيزة في الإسلام"، فلم يكن من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا
أحد من خلفائه وصحابته.
أما تلقيب خالد "سيف الله"، فإنه
لقب هو به جدير، ولم يعطَه عن عصبية ولا مجاملة. ومن العجيب أن يطالب المقال بتوزيع
الألقاب على الأعراق، لا على المناقب والفعال، ويعدَّ عدمَ فعْل ذلك من العنصرية. وما
طالب به المقال من تلقيب وحشي "حربة الله التي لا تخطئ الهدف" ليس له معنى،
فلم تعرف لحربة وحشي إصابة في ذات الله إلا مرة واحدة، هي التي قتل فيها مسيلمة، ولا
تعرف لها إصابة قبلها ولا بعدها، وما عُرِف به من الرمي كان يعرف غيره من المسلمين
في زمانه مثله من أساليب القتال، من غير أن يلقبوا بما مهروا فيه، فقد كان صهيب -رضي
الله عنه-، وهو مولى، من أرمى الناس، ومن السابقين الأولين الذين أبلوا في الله بلاء،
لا يداني بلاء وحشي، ولم يلقب "قوس الله"، أو "سهم الله"، وأسلمت
هوازن، "وكانوا رماة لا يسقط لهم سهم" (صحيح مسلم)، وكانوا من أمس الناس
رحما برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومنهم مرضعته حليمة السعدية -رضي الله عنها-،
ولم يلقبهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "سهام الله"، ولا أعطاهم أعنة
الخيل، كما أعطاها خالدا.
وما ينبغي أن يساوي منصف بين وحشي الذي
لم يُعرَف بنباهة، ولا مهارة قيادية، وخالد بن الوليد القائد العبقري الذي دوَّخ العرب
والفرس والروم، وأعز الله به دينه، منذ أسلم، وأعلى كلمته، في جزيرة العرب، والعراق،
والشام، وكان له من البلاء في ذات الله ما لم يكن لأحد المسلمين. ولو كان النبي -صلى
الله عليه وسلم- يعتدُّ بالقرابة في شيء مما يولي، لولى عليا، أو غيره من بني هاشم،
وكان خالد آخر من يفكر في توليته، لما كان بين بني عبد مناف وبني مخزوم في الجاهلية
من تنازع الشرف، كما قال أبو جهل: "تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا،
وحملوا فحلمنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا:
منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه؟". وكان وحشي -إلى ذلك- شريبا،
وقد حُدَّ في الخمر، ومات بها، ولا يصلح شريب للقيادة، إن فرض أنه أوتي من مقوماتها
ما يكفي.
أما كون النبي صلى الله عليه وسلم- لم يوله
منصبا قياديا كما ولى خالدا، فإن وحشيا لا يعرف أنه كان ذا موهبة قيادية، ولم يرو عنه
من المزايا العقلية والبدنية إلا صفتان: أنه كان ماهرا بالرمي بالحراب، وأنه كان قائفا،
وليست القيادة مهارة بالحرب، ولا مهارة بأسلوب من أساليبها، فقد كان علي بن أبي طالب
فارسا وبطلا شجاعا، ولم يوله النبي -صلى الله عليه وسلم- ما ولى خالدا، مع أنه ابن
عمه، وختَنه، ومكانته في الإسلام لا خفاء بها. والقيادة أكبر من مهارة بالرمي، وبأسلوب
من أساليب القتال، وهي تخطيط، وسياسة، ودهاء، وحنكة، ولذلك ولى النبي -صلى الله عليه
وسلم- خالدا القيادة منذ أسلم، وأمَّر عمرو بن العاص على أبي بكر وعمر وأبي عبيدة،
وهم من هم، سابقة، وفضلا، وعقلا، وعلما. وأمَّر زيد بن حارثة، وهو مولى، على ابن عمه،
جعفر بن أبي طالب، في غزوة مؤتة، وأمَّر ابنه زيدا على جيش وجهه إلى فلسطين، فيه أبو
بكر الصديق، وكبار المهاجرين (الصحيحان)، وهو ابن ثماني عشرة سنة، "فطعن بعض النَّاسِ
فِي إمارته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن تطعنوا فِي إمارته، فقد كنتم
تطعنون فِي إمارة أبيه مِن قبل، وايْم اللَّهِ إِن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لمن
أحب الناس إِلَيَّ، وإن هذا لمن أَحَبِّ النَّاسِ إلي بعده"(صحيح البخاري). ولو
كان مبنى الأمر على العنصرية، ما ولاهما.
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أبعد
الناس مما ينسب إليه المقال، فقد تبنى زيدا، وكان يدعوه زيد بن محمد، إلى أن نزل قول
الله تعالى (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله)، وزوجه بنت عمته، زينب بنت جحش، ثم مولاته،
أم أيمن. وكان يرى من حبه له، وحسْن معاملته إياه ما جعله يؤثره على أبيه وعمه، لما
خيَّره بين أن يذهب معهما، وقد جاءا في طلبه، أو يبقى معه، فقال له: "ما أنا بالذي
أختار عليك أحدا، أنت مني مكان الأب والعم"، فقال له أبوه وعمه: "ويحك يا
زيد، أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وأهل بيتك؟! قال: نعم، قد رأيت من هذا
الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا". وقد ولاه -صلى الله عليه وسلم-
قيادة عدة غزوات، كغزوة القَرْدة، وغزوة الجَموم، وغزوة جُذام، وغزوة وداي القرى، وغزوة
مؤتة. وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: "ما بعث رسول الله -صلى الله عليه و
سلم- زيد بن حارثة في سرية إلا أمَّره عليهم، ولو بقي لاستخلفه بعده". وقال في
ابنه أسامة: "إن أسامة بن زيد لأحب الناس إلي، أو من أحب الناس إلي، وأنا أرجو
أن يكون من صالحيكم، فاستوصوا به خيرا"(مسلم). وروت عائشة أن أسامة عثر
"بأسكُفَّة الباب (عتبته)، فشُجَّ في وجهه، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- : أميطي عنه، فكأني تقذَّرته، فجعل رسول الله يمصه ثم يمجُّه". ولما فرض
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- للناس، فرَض لأسامة بن زيد خمسة آلاف، وفرض لابنه عبد
الله بن عمر ألفين، فقال ابن عمر: فضَّلتَ عليَّ أسامة، وقد شهدتُ ما لم يشهد، فقال
له: إن أسامة كان أحب إلى رسول الله منك، وأبوه كان أحب إلى رسول الله من أبيك".
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُنزل أمَّ أيمن منزلة الأم، ويدعوها أمي، وهي أم
أسامة، وكانت حبشية، وكان يزورها في بيتها، وتعامله معاملة الأم لابنها؛ لأنها حضنته
بعد وفاة أمه. وروى مسلم: "عَنْ أَنَسٍ قَالَ: انطلق رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- إِلَى أم أيمن، فانطلقت معه، فناولتْه إناءً فِيهِ شراب، قال: فَلاَ أَدرِى أصادفته
صَائِمًا، أَو لم يُرِدْهُ، فجعلت تَصْخَبُ عليه، وَتَذَمَّرُ عليه"، أي تتكلم
بالغضب، تدلُّ عليه؛ لأنها ربته. وروى أيضا: "قال أبو بكر بعد وفاة رَسولِ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- لعمر: انطلق بِنَا إِلَى أُمِّ أيمن نزورها، كما كان رسول اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- يزورها". وأبى عمر بن الخطاب أن يوصى بالخلافة لابنه
عبد الله، وابن عمه، وصهره، سعيد بن زيد بن نفيل، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة،
وأبى أن يوصي بها لعلي بن أبي طالب، ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وختنه، وعثمان
بن عفان، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وقال: "لو
كان سالم حيا ما جعلتها شورى". وسالم مولى أبي حذيفة، وتبناه أبو حذيفة كما تبنى
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة، فكان يرى أنه ابنه، وأنكحه ابنة أخيه،
فاطمة بنت الوليد بن عتبة، وهي من المهاجرات، وكانت من أفضل أيامى قريش. أما بلال
-رضي الله عنه- فقد أوجز عمر -رضي الله عنه- مكانته عند الصحابة، ولا سيما الخلفاء
الراشدين، في قوله: "أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا" (رواه البخاري). وكانوا
يحبونه حبا جما، ويأنسون بقربه، ويستوحشون من بعده، فقد أراد مرة أن يخرج إلى الشام،
فقال له أبو بكر: "بل تكون عندي، فقال له: إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني، وإن
كنت أعتقتني لله -عز وجل- فذرني أذهب إلى الله -عز وجل-، فقال: اذهب". وفي رواية
أخرى أنه جاء أبا بكر، فقال له: "إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه و سلم- يقول
: "أفضل أعمال المؤمن الجهاد في سبيل الله "، وقد أردت أن أرابط في سبيل
الله حتى أموت، فقال له أبو بكر: أنشدك الله يا بلال، وحُرْمَتي، وحقي، ألا تتركني،
فقد كبِرت، واقترب أجلي. فأقام معه حتى توفي، فجاء إلى عمر -رضي الله عنه- فقال له
كما قال لأبي بكر، فردَّ عليه كما ردَّ أبو بكر، فأبى".
هذه هي مكانة الموالي عند رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وعند أبي بكر الصديق، ويدعي المقال أنهما كانا عنصريينِ، وكانت معاملتهما
قائمة على التمييز والطبقية!. ولقد كان سيدنا بلال -رضي الله عنه- أولى من وحشي بما
أراد له المقال، إن كان لا بدَّ من إشراك الصحابة في المناصب، على حسب الأعراق التي
لم يكن "الدين" يعتدُّ بها؛ فقد كان أسبق منه إلى الإسلام، وأتْقى، وأكثر
مناقب، وهو -إلى ذلك- حبشي، كوحشي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق