الانشاء و البداية و
البناء مطلقا ـ بيتا للسكن كان أو حصنا يحمي أو طريقا يؤدي أو نفقا يذلل و يطوع
جغرافيا أو جسرا يفك اختناقا مروريا أو فلح حقل زراعي يبتغى منه العيش و استرزاق
المولى جل و علا أو ـ يبدأ بالحفر و التجريف و تشويه وجه كان ـ ربما ـ جميلا و
ناعما و تعريضه لأخاديد و شقوق و حفريات عميقة مليئة بالطين و الأتربة و ما لا
تأنس به النفس في الحالات الطبيعية غير الاستثنائية ، لكن بعد اكمال المرحلة
الأولى تبدأ تلك التشوهات في الاختفاء رويدا رويد حتى تزول تماما فيأخذ المنجز
شكله الجمالي و الوظيفي النهائي . و هذا التدرج في الاختفاء و كونه لم يأتي دفعة
واحدة سببه أن كل مرحلة من هذه المراحل تحتاج قدرا من الجمال و الكمال قبلها تقوم
عليه و قدرا من التشوه المرحلي و الخشونة ليكون عند اكتماله أساسا لما بعدها .
كل ذلك العبث ـ شكلا ـ و الفوضى و العنف و
التكسير و التشقيق و التخشين هو بداية حتمية لعمارة الأرض و إحياءها و تحقيق خلافة
الانسان لله فيها ، فتبصر ـ أمتعنا الله و إياك بالبصر و البصيرة ـ كيف تحول كل
ذلك الشقاء و العنف و الهمجية و التشويه إلى نعيم ولين و جمال و هدوء و سلام ،
فحيت الأرض و أزَّينت و وهبت الانسان وافر المحصول ( طبعا تعبير مجازي فالله هو
الواهب و المعطي ) و ارتفعت العمارات و الأبراج و تعبدت الطرق و الأنفاق و الجسور
و دبت في ذلك الموات الحياة كل ذلك حدث بعد
" مبارحة البداية " موضوع
التفكيك و هدفه . فلنفرض أن بناء بدأ مشروعا عمرانيا و بعد مرحلة أو مراحل من
العمل توقف تحت أي سبب ( خيانة مثلا أو خلافا مع المالك أو موتا مجهزا ) فهل من
الاستغلال الأمثل للوقت و الموارد و الجهد أن نتعهد ذلك البناء بالتدقيق فنحتفظ
بالمفيد منه و نعالج أماكن الخلل ـ إن وجدت ـ و نكمل العمل ، أو أن نعمد إلى إزالة
كل ما تم و نبدأ من جديد ؟! مؤكد أن الخيار الثاني مكلف و غير بناء . و هاك مثالا
آخر على محاولة تفكيك " مبارحة البداية " يحتاج الرضيع في أيامه الأولى إلى
نوع من الحليب ذي تركيبة غذائية خاصة يستمر عليه فترة يمده خلالها بأسباب النمو الذي
يبدو عليه واضحا من خلال زيادة الحجم و تنامي الشعور بالمحيط و التفاعل مع
المؤثرات و بعد فترة من الزمن يصبح ذات الحليب عديم الفائدة بل تنتج عنه عوارض سوء
التغذية و أمراضها ما يعني وجوب تغييره بغيره ذي تركيبة مختلفة تتماشى مع عمره و
حاجته الجديدة من العناصر المغذية و هكذا دواليك حتى يبلغ الفطام و يبدأ في تعاطي
الطعام بذات التدرج الذي حصل مع الحليب . كذلك يكون التعامل مع أي واقع تعيس كالذي
عيش في موريتانيا و عانى منه الكثيرون خصوصا من مكون الحراطين و انطلق نضالهم ضده فئويا
بالدرجة الأولى . واقع يستند إلى الظلم و السطوة و فرض الذات على الآخرين و سلبهم
حريتهم و ما يكسبون و يستمد استمراره و أسباب ديمومته من مجموعة من المعطيات
المتجذرة في النفوس و المستحكمة في العقل الجمعي و المعقول . و يتكاتف على ترسيخها
" التفسير الديني " و الأعراف و قوة النفوذ العصبوي القبلي و احتكار الاجتهاد و التواطؤ بين القوى النافذة
و المرجعيات المختلفة . ما أرمي الوصول إليه و أود إيصاله هو أن استنبات الجديد من
الثقافة في البيئات البوار و التي لم تعهده من قبل يتطلب ريه بما يناسب مراحله كلها
من الخطاب و طرق التعبير و أدواته .
من المعلوم ـ بديهيا ـ أن الخطاب هو الواجهة الأولى للنضال و
المرآة العاكسة له ـ شكلا على الأقل ـ و هو الذي يقدمه للناس و هو الذي يجعلهم
يتعاطون سلبا أو إيجابا معه لذلك كان تطويره لزاما حتى يواكب المستجدات و المتغيرات
المحلية و الدولية لا يعني ذلك أنني أدعو إلى التخلي عن الخطاب أو الخط النضالي
للحراطين إلا أن الجمود عند الشكل الفئوي لهذا الخطاب أو ذاك النضال سيكون عائقا ـ
لا محالة ـ أمام وصوله إلى بقية الفئات بالشكل المطلوب و بالسرعة المرجوة و بأقل
الخسائر في الوقت و الجهد . عندما نادت حركة الحر (( أخي الحرطاني )) كانت تستغل استغلالا
ذكيا كذبة كبيرة وضعتها الحكومة و أشاعتها
أجواء المدينة و العيش في تجمعات يصعب امتهانها علانية تتمثل في ذلك الاسم الذي
جمع السود الناطقين بالحسانية " الحراطين " بعد أن أصبحت كلمة العبيد
محرجة للجميع و كذلك كذبة أن كل الناس أحرار و أنهم سواسية أمام مؤسسات الدولة و هي حقيقة من الناحية النظرية البحتة لكن من
الناحية التطبيقية كان ذلك كله هراء تكذبه الوقائع على الأرض فقد كان العبد الذي
يموت يرث سيده ماله عن رضى و تسليم من ذويه إذا كانوا في البوادي و القرى الصغيرة
و بالقضاء عندما تكون عوامل الرضى و التسليم و الخوف غير متوافرة و كنت شاهدا على
حالة منها واحدة كان المعنيون يذهبون إلى قصر العدالة و يتنازعون و يتقاضون حتى
صدر الحكم القضائي النهائي ببعض التعويضات لذوي الميت و بالورث للأسياد ( و الله
على ما أقول شهيد ) و كان الخطاب وقتئذ يناسب أن تكون من بين مفرداته (( لا لحرمان
أهل الميت الحرطاني من كده و تعبه و توريثها سيدا لازمه الكسل و الاتكال ليحصد في
النهاية شقاء الناس و مدخراتهم )) كما يمكن ابتلاع عبارة أخرى (( لا لتملك البيظان
للحراطين و استعبادهم وووو )) بالرغم من وجود ملاك آخرين للعبيد غيرهم إلا أن
حيازتهم للأغلبية الساحقة من ذلك الملك تجيز تخصيصهم بالخطاب أما الآن فلا أعتقد
أن تيك العبارات و المفردات مازالت واردة الحضور في الخطاب النضالي . لكن لا شك أن
ثمة عبارات أخرى مازالت واردة و يجب أن تكون حاضرة بقوة في هذا الخطاب ـ من قبيل المطالبة
بالمساوات في فرص العمل و التوظيف و تمويل المشاريع الفردية المدرة للدخل و أمام
العدالة و في تلقي نفس المستوى من الخدمات ـ فلاحظ أن التخصيص في رفض الارث كان
محل مباركة لأنه كان يخص فئة لا تشاركها فيه الفئات الأخرى لذلك وجبت تسمية
الأشياء بمسمياتها . أما ما يخص العبارات الأخرى التي قلت إنها مازالت مركزية في
هذا النضال أو يجب أن تبقى مركزية في الخطاب النضالي فإن ورودها يجب أن يتجاوز
الفئة و التخصيص فكم في أحياء الصفيح من " كوكتيل الفئات " يجمع بينها
قصر ذات اليد و وطأة الفقر و ألم الحاجة وقطعا من ظلم منها لا يجد من العدل إلا ما
أنتزعه له الحي القيوم و من ذهب إلى المستشفى لن يجد من العناية إلا الاهمال و الاعراض و قل
مثل ذلك في ما لو حاول الحصول على قرض أو تقدم لشغل وظيفة ما لم تكن تأنها نفوس
الطبقة الغنية من كافة الفئات و أعتقد أنه من الصعوبة بمكان أن نستطيع حشر
الحكومات في زاوية التغيير الضيقة و إجبارها على تغيير السلوك في تعاطيها مع
القضايا الوطنية ما دام هناك خطاب يمكن تصنيفه على أنه خطاب فئوي حشدوي و ستظل هذه
الحكومات تستغله لتغطية فشلها في القيام بمهامها و مسؤولياتها بتسويفها لكل ذلك لمصلحة
الدفاع عن السلم الاهلي و منع الفتنة و هلم جرا و لا تسأل عما يقود إليه ذلك من
اختطاف البلد من الحال العادية إلى استمرا حالة الطوارئ التي هي أساس الظلم و تغول
السلطة التنفيذية على السلطتين القضائية و التشريعية و باقي مفاصل الأمل في
التغيير و ما عليه الرهان في اقامة دولة المؤسسات دولة العدالة و القيم الانسانية
النبيلة . هذه الاستقالة من المسؤولية المتمثلة في سيطرة الفساد و المحسوبية و
النهب و اهمال البنى التحتية التي هي عماد كل نهضة تنموية و اساسها ، و مطاردة
أشباح الفتنة و مهددات الوحدة و حماية الكيان من دعاة الانفصال كل ذلك مكر مكره
المحافظون ليظلوا جاثمين على صدر المدينة الثكلى و سيجد من يستمع اليه و يحتضنه
مادام يسمع صوتا آخر يمجد الفئة و الشريحة أفما حان وقت التقويم الشامل و التقييم
؟
مــــــــــــــــــــــــــــــــــلاحظة
:
جمود الخطاب عند
البدايات يمثل حالة عجز و انعدام رؤية قابلة للجمع ـ أو على الأقل يوحي بذلك ـ و يوازيه
خطورة دفع صاحب النضال و حشره في زاوية المتهم الذي لا هم له إلا تبرئة نفسه و إن
أفلح (( بعد هياط و مياط و شفاعة من قريش ود لو أنها حصلت من زمن " منقول بتصرف " )) يقال له خلاص فهمناك أنت رمز أنت وطني أنت لا تشكل خطرا ! فيركن إلى الدعة و الهدوء و تبقى القضية .